الفصول الغروية في الأصول الفقهية - الشيخ محمد حسين الحائري - الصفحة ١٣٣
ما عرفت بيانه سابقا ففي الحقيقة كل واجب مخير يتعذر فيه الجمع يستلزم التخيير بين فعله وتركه الخاص أعني تركه المتوصل به إلى فعل الفرد الاخر ومثله التخيير في المقام إلا أن التخيير هناك بين نفسي وغيري وهنا بين نفسيين كالتخيير بين الخصال وتوضيح المقام أن الرجحان والمرجوحية من الصفات المتضايفة فلا يتحقق أحدهما بدون الاخر ويستلزم إطلاق أحدهما وتقييده لاطلاق الاخر وتقييده وهما يعتبران في ماهية الاحكام العينية التعيينية بالنسبة إلى طرفي نقيض الافعال فقضية رجحان الفعل المطلق أو المقيد مطلقا أو مقيدا عينيا أو تعيينيا مرجوحية تركه على حسبه وبالعكس و كذا الكلام في رجحان الترك المطلق وقضية رجحان ترك مقيد عينا وتعيينا مرجوحية ترك هذا الترك لمكان المناقضة دون الفعل لانتفائها بالنسبة إليه وقد سبق تحقيق ذلك في مسألة الضد و يعتبران في الاحكام الكفائية والتخييرية بالنسبة إلى الفعل وما هو أخص من نقيضه فإن المرجوحية غير لاحقة لمطلق تركها بل لتركها المجرد عن البدل وهو أخص من مطلق تركها المناقض لفعلها ثم كما يصح أن يجعل البدل في الواجب التخييري فعلا آخر كالعتق و الاطعام أو تركه على وجه مخصوص كالعتق والصوم كذلك يجوز أن يجعل ترك نفسه على وجه مخصوص بدلا عن فعله مطلقا أو على وجه مخصوص كما في المندوب الراجح تركه على وجه الإجابة ولا يلزم منه توارد الرجحان والمرجوحية على محل واحد لتغاير الموردين فإن الترك المجرد عما هو بدل عن الواجب مباين للترك الذي هو بدل عنه وإنما اعتبرنا في المقامين كون الترك على وجه مخصوص لان التخيير بين الفعل مطلقا وبين تركه مطلقا إباحة و التخيير بين الفعل على وجه مخصوص وبين تركه مطلقا كفعل النافلة متطهرا أو تركها راجع إلى تحريم الفعل على غير ذلك الوجه فليس في هذين الصورتين إيجاب فعل أصلا وإنما المتحقق في الثانية تكليف واحد وتحريم فعل خاص إذا تقرر هذا ظهر أنه لا منافاة بين أن يكون الصوم في السفر مثلا على القول بجوازه بقصد الامتثال راجحا نفسيا ويكون تركه أيضا كذلك راجحا نفسيا أو أرجح بل يتعين الثاني لمكان الكراهة فيكون رجحانهما بالنسبة إلى الترك المجرد عن القيد فيصح تعلق الطلب بهما كذلك لكن على وجه التخيير لئلا يلزم التكليف بالمحال لا يقال هذا تخيير بين الفعل و الترك فيرجع إلى الإباحة فلا يتحقق الطلب لأنا نقول ليس مطلق التخيير بين الفعل والترك إباحة بل إذا كانا متقابلين بأن يمتنع فيه الواسطة وليس المقام منه كما عرفت وهل هذا التخيير إلا كالتخيير بين فعل وترك فعل آخر إذا تنافيا في الاجتماع غاية الامر أن التنافي هنا من حيث الذات وهناك بواسطة أمر خارج بل كالتخيير بين الفعل والترك على وجه خاص إذا اشتمل كل منهما على مرجح شرعي كإنجاح الملتمس فإن كلا منهما راجح إذا قصد به ذلك ومثله إتمام الصوم المندوب عند عرض المفطر ولا يبعد إلحاقه بالمكروه فإن قلت إطلاق النهي يقتضي مطلوبية الترك مطلقا و تنزيله على مطلوبية الترك بقصد الامتثال تقييد وخروج عن الظاهر فلا يصار إليه إلا لدليل قلت لما ثبت مما قررنا امتناع إبقاء النهي هنا على ظاهره فلا ريب أن التنزيل المذكور أقرب المحامل إليه وقد مر في مبحث الامر ما يقرب ذلك وهذا من تحقيقاتنا التي تفردنا بها وعليك بإمعان النظر فيه فإنه بمكان من الغموض والخفاء الثالث أن المراد بكراهة العبادة مرجوحيتها بالنسبة إلى الغير ويرادفها خلاف الأولى فالرجحان ذاتي والمرجوحية إضافية ولا منافاة كالقصر في المواطن الأربعة فإنه مرجوح بالنسبة إلى الاتمام مع أنه أحد أفراد الواجب المخير فكما يجتمع الوجوب النفسي مع الاستحباب الغيري كغسل الجنابة للصلاة المندوبة على القول بوجوبه لنفسه و الاستحباب النفسي مع الوجوب الغيري كوجوبه للصلاة الواجبة على القول الاخر كذلك يجتمع الرجحان الذاتي مع الكراهة للغير كصلاة الصائم عند انتظار الرفقة والمكروهات للغير كثيرة منها الاتزار فوق القميص للصلاة ومصاحبة الحديد البارز لها ونحو ذلك و اعترض عليه المعاصر المذكور بأن تلك المرجوحية الإضافية إن أوجبت مرجوحية لذات العبادة بحيث يترجح تركها بالنظر إلى ذاتها عاد المحذور وهو لزوم كون شئ واحد في حد ذاته راجحا و مرجوحا وإن لم توجب ذلك كان معناه كون الغير أرجح بالنسبة إليه و هذا لا يستقيم فيما إذا كان الأرجح موازيا لأصل الطبيعة في الرجحان إذ يصير المرجوح بالنسبة إليه حينئذ مرجوحا بالنسبة إلى أصل الطبيعة فيحصل له منقصة ذاتية أيضا ولا يمكن أن يجعل المنقصة من جهة الخصوصية لا من جهة أصل العبادة لمنافاته لأصل المجيب حيث لا يعتد بتعدد الجهة بل لا يستقيم ذلك في غير هذه الصورة مما تكون المرجوحية فيها بالنسبة إلى الافراد الراجحة على أصل الطبيعة أيضا إذ نقول بعد تسليم كونه حينئذ راجحا بالذات ومرجوحا بالنسبة إلى الغير أنه إما أن يكون مطلوب الفعل أو مطلوب الترك أو مطلوب الفعل والترك فيلزم على الأول عدم المرجوحية وما يلزمه من الحرمة أو الكراهة وعلى الثاني عدم الرجحان وما يلزمه من الوجوب أو الندب وعلى الثالث يلزم التكليف بالمحال ولا سبيل إلى اعتبار مطلوبية الفعل بالنسبة إلى الذات ومطلوبية الترك بالنسبة إلى الغير لان ذلك ينافي ما بنى عليه المجيب من عدم الاعتداد بتغاير الجهة مع وحدة المتعلق فإن قيل نختار القسم الأخير وهو مطلوبية الفعل والترك ولا نسلم لزوم التكليف بالمحال لجواز الفعل والترك معا قلنا لا يجدي ذلك فيما إذا أراد المكلف الفعل واختار الفرد المرجوح وجواز الفعل والترك لا يجوز اجتماع المتضادين في صورة اختياره وهو واضح مع أنه لا فارق بين قولنا لا تصل في الدار المغصوبة ولا تصل في الحمام فكما يعتبر الرجحان في الفرض الثاني بحسب الذات والمرجوحية بحسب الغير فليعتبر ذلك في الفرض الأول أيضا وذلك بأن يقال رجحان الصلاة في الدار المغصوبة ذاتي ومرجوحيتها إضافية بالنسبة إلى الغير وما يقال في دفعه من أن الفارق هو كون الصلاة ثمة عين الغصب وهي هنا غير الكون في الحمام فيصح أن يختلف الحكم في الثاني دون الأول فتكلف واضح ومع ذلك فهو مبني على أن الاتحاد في الوجود الخارجي يوجب ارتفاع الاثنينية في الحقيقة و هو ممنوع على أن في التمثيل لما نحن فيه بلا تصل في الدار المغصوبة خلطا بين المسألة المبحوث عنها هنا وبين المسألة
(١٣٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 128 129 130 131 132 133 134 135 136 137 138 ... » »»