تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٤٥
ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) * هذا أمر لكل الناس بأمر عام وهو العبادة الجامعة لامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه وتصديق خبره فأمرهم تعالى بما خلقهم له قال تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * ثم استدل على وجوب عبادته وحده بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم فخلقكم بعد العدم وخلق الذين من قبلكم وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها وتنتفعون بالأبنية والزراعة والحراثة والسلوك من محل إلى محل وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها وجعل السماء بناء لمسكنكم وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم كالشمس والقمر والنجوم * (وأنزل من السماء ماء) * والسماء: [هو] كل ما علا فوقك فهو سماء ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء هاهنا: السحاب فأنزل منه تعالى ماء * (فأخرج به من الثمرات) * كالحبوب والثمار من نخيل وفواكه [وزروع] وغيرها * (رزقا لكم) * به ترتزقون وتقوتون وتعيشون وتفكهون * (فلا تجعلوا لله أندادا) * أي: نظراء وأشباها من المخلوقين فتعبدونهم كما تعبدون الله وتحبونهم كما تحبونه وهم مثلكم مخلوقون مرزوقون مدبرون لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ولا ينفعونكم ولا يضرون * (وأنتم تعلمون) * أن الله ليس له شريك ولا نظير لا في الخلق والرزق والتدبير ولا في العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب وأسفه السفه وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن عبادة ما سواه وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته وبطلان عبادة من سواه وهو [ذكر] توحيد الربوبية المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك فكذلك فليكن الإقرار بأن [الله] ليس له شريك في العبادة وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري وبطلان الشرك وقوله تعالى: * (لعلكم تتقون) * يحتمل أن المعنى: أنكم إذا عبدتم الله وحده اتقيتم بذلك سخطه وعذابه لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك ويحتمل أن يكون المعنى: أنكم إذا عبدتم الله صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى وكلا المعنيين صحيح وهما متلازمان فمن أتى بالعبادة كاملة كان من المتقين ومن كان من المتقين حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه ثم قال تعالى:
(23 - 24) * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين) * وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به فقال: * (وإن كنتم) * معشر المعاندين للرسول الرادين دعوته الزاعمين كذبه في شك واشتباه مما نزلنا على عبدنا هل هو حق أو غيره؟ فهاهنا أمر نصف فيه الفيصلة بينكم وبينه وهو أنه بشر مثلكم ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم ولا يكتب ولا يقرأ فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله وقلتم أنتم أنه تقوله وافتراه فإن كان الأمر كما تقولون فأتوا بسورة من مثله واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم فإن هذا أمر يسير عليكم خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة والعداوة العظيمة للرسول فإن جئتم بسورة من مثله فهو كما زعمتم وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز ولن تأتوا بسورة من مثله ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزيل معكم فهذا آية كبرى ودليل واضح [جلي] على صدقه وصدق ما جاء به فيتعين عليكم اتباعه واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [والشدة] أن كانت وقودها الناس والحجارة ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد
(٤٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 ... » »»