تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٩ - الصفحة ٢٢
وهذا فيه الأول من حيث أنهم لم يتمنون هلاك من يجيرهم من العذاب بإرشاده والسياق ادعى للأول وثالثها أن المعنى إن أهلكنا الله تعالى في الآخرة بذنوبنا ونحن مسلمون فمن يجير الكافرين وهم أولى بالهلاك لكفرهم وإن رحمنا بالايمان فمن يجير من لا إيمان له وعلى هذا الجواب متعدد أيضا والهلاك فيه محمول على المجاز دون الحقيقة كما في سابقه والغرض الجزم بأنهم لا مجير لهم وإن حالهم إذا ترددت بين الهلاك بالذنب والرحمة بالايمان وهم مؤمنون فما ذا يكون حال من لا إيمان له وهذا فيه بعد.
* (قل هو الرحم‍ان ءامنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو فى ضل‍ال مبين) * * (قل) * أي لهم جوابا عن تمنيهم ما لا يجديهم بل يرديهم معرضا بسوء ما هم عليه * (هو الرحمن) * أي الله الرحمن * (آمنا به) * أي فيجيرنا برحمته عز وجل من عذاب الآخرة ولم نكفر مثلكم حتى لانجار البتة ولما جعل الكفر سبب الإساءة في الآية الأولى جعل الايمان سبب الإجارة في هذه ليتم التقابل ويقع التعريض موقعه ولم يقدم مفعول آمنا لأنه لو قيل به آمنا كان ذهابا إلى التعريض بإيمانهم بالأصنام وكان خروجا عما سيق له الكلام وحسن التقديم في قوله تعالى: * (وعليه توكلنا) * لاقتضاء التعريض بهم في أمر التوكل ذلك أي وعليه توكلنا ونعم الوكيل فنصرنا لا على العدد والعدد كما أنتم عليه والحاصل أنه لما ذكر فيما قبل الإهلاك والرحمة وفسر برحمة الدنيا والآخرة أكد ههنا بحصولها لهم في الدارين لايمانهم وتوكلهم عليه تعالى خاصة وفي ذلك تحقيق عدم حصولها للكافرين لانتفاء الموجبين ثم في الآية خاتمة على منوال السابقة وتبيين أن أحسن العمل الايمان والتوكل على الله تعالى وحده وهو حقيقة التقوى وقوله تعالى: * (فستعلمون من هو في ضلال مبين) * أي في الدارين وعيد بعد تلخيص الموجب لكنه أخرج مخرج الكلام المنصف أي من هو منا ومنكم في الخ وقرأ الكسائي فسيعلمون بياء الغيبة نظرا إلى قوله تعالى فمن يجير الكافرين وقوله سبحانه:
* (قل أرءيتم إن أصبح مآؤكم غورا فمن يأتيكم بمآء معين) * * (قل أرأيتم) * أي أخبروني * (إن أصبح ماؤكم غورا) * أي غائرا ذاهبا في الأرض بالكلية وعن الكلبي لا تناله الدلاء وهو مصدر وصف به للمبالغة أو مؤل باسم الفاعل وأيا ما كان فليس المراد بالماء ماء معينا وإن كانت الآية كما روى ابن المنذر والفاكهي عن ابن الكلبي نازلة في بئر زمزم وبئر ميمون بن الحضرمي * (فمن يأتيكم بماء معين) * أي جار أو ظاهر سهل المأخذ لوصول الأيدي إليه وهو فعيل من معن أو مفعول من عين وعيد في الدنيا خاصة واردف الوعيد السابق به تنبيها بالأدنى على الأعلى وإنكم إذا لم تعبدوه عز وجل للحياة الباقية فاعبدوه للفانية وتليت هذه الآية عند بعض المستهزئين فلما سمع فمن يأتيكم الخ قال تجيء به الفؤس والمعاول فذهب ماء عينيه نعوذ بالله تعالى من الجراءة على الله جل جلاله وآياته وتفسير الآيات على هذا الطرز هو ما اختاره بعض الأئمة وهو أبعد مغزى من غيره والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.
سورة القلم هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة فقد نزلت على ما روى عن ابن عباس اقرأ باسم ربك ثم هذه ثم المزمل ثم المدثر وفي " البحر " أنها مكية بلا خلاف فيها بين أهل التأويل وفي الاتقان استثنى منها أنا بلوناهم إلى يعملون ومن فاصبر إلى الصالحين فإنه مدني حكاه السخاوي وفي جمال القراء وآيها ثنتان وخمسون آية بالاجماع ومناسبتها لسورة الملك على ما قيل من جهة ختم تلك بالوعيد وافتتاح هذه به وقال الجلال السيوطي في ذلك إنه تعالى لما ذكر في آخر الملك التهديد بتغوير الماء استظهر عليه في هذه بإذهاب ثمر أصحاب البستان في ليلة بطائف طاف عليهم وهم نائمون فأصبحوا ولم يجدوا له أثرا حتى ظنوا أنهم ضلوا الطريق وإذا كان هذا في الثمار وهي إجرام كثيفة فالماء الذي هو لطيف أقرب إلى الإذهاب ولهذا قال
(٢٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 ... » »»