تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٨ - الصفحة ١٦
تخلق من الطين كهيئة الطير) * (المائدة: 110) وقول زهير:
ولأنت تفري ما خلقت * وبعض القوم يخلق ثم لا يفري وفي معنى ذلك تفسيره بالصنع كما فعل ابن عطية، ولا يصح تفيره بالإيجاد عندنا إذ لا خالق بذلك المعنى غيره تعالى إلا أن يكون على الفرض والتقدير. والمعتزلة يفسرونه بذلك لقولهم بأن العبد خالق لأفعاله وموجود لها استقلالا فالخالق الموجد متعدد عندهم، وقد تكفلت الكتب الكلامية بردهم.
ومن حسن خلقه تعالى اتقانه وأحكامه، ويجوز أن يراد بالحسن مقابل القبح وكل شيء منه عز شأنه حسن لا يتصف بالقبح أصلا من حيث أنه منه فلا دليل فيه للمعتزلة بأنه تعالى لا يخلق الكفر والمعاصي كما لا يخفى.
روى أن عبد الله بن سعيد بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأملى عليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان) * (البلد: 4) حتى إذا بلغ عليه الصلاة والسلام * (ثم أنشأناه خلقا آخر) * نطق عبد الله بقوله تعالى: * (فتبارك الله) * الخ قبل إملائه فقال له عليه الصلاة والسلام: هكذا نزلت فقال عبد الله: إن كان محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إلي فارتد ولحق بمكة كافرا ثم أسلم قبل وفاته عليه الصلاة والسلام وحسن إسلامه، وقيل: ما كافرا. وطعن بعضهم في صحة هذه الرواية بأن السورة مكية وارتداده بالمدينة كما تقتضيه الرواية. وأجيب بأنه يمكن الجمع بأن تكون الآية نازلة بمكة واستكتبها صلى الله عليه وسلم إياه بالمدينة فكان ما كان أو يلتزم كون الآية مدنية لهذا الخبر، وقوله: إن السورة مكية باعتبار الأكثر وعلى هذا يكون اقتصار الجلال السيوطي على استثناء قوله تعالى: * (حتى إذا أخذنا مترفيهم) * (المؤمنون: 64) إلى قوله سبحانه: * (مبلسون) * قصورا فتذكر. وتروى هذه الموافقة عن معاذ بن جبل. أخرج ابن راهويه. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والطبراني في " الأوسط ". وابن مردويه عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: " أملى على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * (المؤمنون: 12) إلى قوله تعالى: * (خلقا آخر) * فقال معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له معاذ: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: بها ختمت " ورويت أيضا عن عمر رضي الله تعالى عنه، أخرج الطبراني. وأبو نعيم في فضائل الصحابة. وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما نزلت * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * إلى آخر الآية قال عمر رضي الله تعالى عنه: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * (المؤمنون: 14) فنزلت كما قال. وأخرج ابن عساكر. وجماعة عن أنس أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يفتخر بذلك ويذكر أنها إحدى موافقاته الأربع لربه عز وجل، ثم إن ذلك من حسن نظم القرآن الكريم حيث تدل صدور كثير من آياته على إعجازها، وقد مدحت بعض الأشعار بذلك فقيل: قصائد إن تكن تتلى على ملاء * صدورها علمت منها قوافيها لا يقال: فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن الكريم وذلك قادح في إعجازه لما أن الخارج عن قدرة البشر على الصحيح ما كان مقدار أقصر سورة منه على أن إعجاز هذه الآية الكريمة منوط بما قبلها كما تعرب عنه الفاء فإنها اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله.
* (ثم إنكم بعد ذالك لميتون) *.
* (ثم إنكم بعد ذلك) * أي بعد ما ذكر من الأمور العجيبة حسبما ينبىء عنه ما في اسم الإشارة من معنى البعد المشعر بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته في الفضل والكمال
(١٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 ... » »»