تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٩ - الصفحة ١٣٦
والجار والمجرور كما قال أبو البقاء إما متعلق بأملك أو بمحذوف وقع حالا من نفعا. والمراد لا أملك ذلك في وقت من الأوقات * (إلا ما شاء الله) * أي إلا وقت مشيئته سبحانه بأن يمكنني من ذلك فإنني حينئذ أملكه بمشيئته، فالاستثناء متصل وفيه دليل كما قال الشيخ إبراهيم الكوراني على أن قدرة العبد مؤثرة بإذن الله تعالى ومشيئته، وقيل: الاستثناء منقطع أي لكن ما شاء الله تعالى من ذلك كائن، وفيه على هذا من اظهار العجز ما لا يخفى، والكلام مسوق لإثبات عجزه عن العلم بالساعة على أتم وجه، وإعادة الأمر لاظهار العناية بشأن الجواب والتنبيه على استقلاله ومغايرته للأول * (ولو كنت أعلم الغيب) * أي الذي من جملته ما بين الأشياء من المناسبات المصححة عادة للسببية والمسببية ومن المباينات المستتبعة للمدافعة والممانعة * (لاستكثرت من الخير) * أي لحصلت كثيرا من الخير الذي نيط بترتيب الأسباب ورفع الموانع * (وما مسن السوء) * أي السوء الذي يمكن التفصي عنه بالتوقي عن موجباته والمدافعة بموانعه وإن كان منه ما لا مدفع له وكأن عدم مس السوء من توابع استكثار الخير في الجملة، ولذا لم يسلك في الجملة الثانية نحو مسلك الجملة الأولى، والاستلزام في الشرطية لا يلزم أن يكون عقليا وكليا بل يكفي أن يكون عاديا في البعض. وقد حكم غير واحد أنه في الآية من العادي، وبذلك دفع الشهاب ما قيل: إن العلم بالشيء لا يلزم منه القدرة عليه ومنشؤه الغفلة عن المراد.
وحمل الخير والسوء على ما ذكر هو الذي ذهب إليه جلة المحققين. وفسر بعض الأول بالربح في التجارة والفوز بالخصب. والثاني بضد ذلك بناء على ما روي عن الكلبي أن أهل مكة قالوا، يا محمد ألا تخبرنا بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فنشتري فنربح، وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرتحل منها إلى ما قد أخصب فنزلت.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأول بالربح في التجارة والثاني بالفقرة، وقيل: الأول الجواب عن السؤال والثاني التكذيب، وقيل: الأول الاشتغال بدعوة من سبقت له السعادة، والثاني النصب الحاصل من دعوة من حقت عليه كلمة العذاب.
وقيل: ونسب إلى مجاهد. وابن جريج المراد من الغيب الموت، ومن الخير الاكثار من الأعمال الصالحة، ومن السوء ما لم يكن كذلك، وقيل: غير ذلك، والكل كما ترى ومنها ما لا ينبغي أن يخرج عليه التنزيل، وقدم ذكر الخير على ذكر السوء لمناسبة ما قبل حيث قدم فيه ذكر النفع على ذكر الضر وسلك في ذكرهما هناك كذلك مسلك الترقي على ما قيل: فإن دفع المضار أهم من جلب المنافع، وذكر النيسابوري أن أكثر ما جاء في القرآن إذ يؤتي بالضر والنفع معا تقديم لفظ الضر على النفع وهو الأصل لأن العابد إنما يعبد معبوده خوفا من عقابه أولا ثم يعبده طمعا في ثوابه ثانيا كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: * (يدعون ربهم خوفا وطمعا) * (السجدة: 16) وحيث تقدم النفع على الضر كان ذلك لسبق لفظ تضمن معني نفع كما في هذه السورة حيث تقدم آنفا لفظ الهداية على الضلال في قوله تعالى: * (من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل) * (الأعراف: 178) الخ وفي الرعد تقدم ذكر الطوع في قوله سبحانه: * (طوعا وكرها) * (آل عمران: 83) وهو نفع، وفي الفرقان تقدم العذب في قوله جل وعلا: * (هذا عذاب فرات) * (الفرقان: 53) وهو نفع، وفي سبأ تقدم البسط في قوله تبارك اسمه: * (ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) * (سبأ: 36) وليقس على هذا غيره، وابن جريح يفسر النفع هنا بالهدى والضر بالضلال، وبه تقوى نكتة التقديم التي اعتبرها هذا الفاضل فيما نحن فيه كما لا يخفى.
واستشكلت هذه الآية مع ما صح أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بالمغيبات الجمة وكان الأمر كما أخبر، وعد
(١٣٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 131 132 133 134 135 136 137 138 139 140 141 ... » »»