تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٤ - الصفحة ١٣
وإنما استطردت هذا المبحث هنا مع تقدم إشارات جزئية إلى بعض منه لأنه أمر مهم جدا لا تنبغي الغفلة عنه فاحفظه فإنه من بنات الحقاق لا من حوانيت الأسواق، والله تعالى الموفق لا رب غيره.
* (ومن كفر فإن الله غني عن الع‍المين) * يحتمل أن يراد بمن كفر من لم يحج وعبر عن ترك الحج بالكفر تغليظا وتشديدا على تاركه كما وقع مثل ذلك فيما أخرجه سعيد بن منصور وأحمد وغيرهما عن أبي أمامة من قوله صلى الله عليه وسلم: " من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حالة شاء يهوديا أو نصرانيا " ومثله ما روي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين، ويحتمل إبقاء الكفر على ظاهره بناءا على ما أخرج ابن جرير وعبد بن حميد وغيرهما عن عكرمة " أنه لما نزلت * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا) * (آل عمران: 85) الآية قال اليهود: فنحن مسلمون فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى فرض على المسلمين حج البيت فقالوا لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا فنزل * (ومن كفر) * " الآية. ومن طريق الضحاك أنه لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الملل مشركي العرب والنصارى واليهود والمجوس والصابئين فقال: إن الله تعالى قد فرض عليكم الحج فحجوا البيت فلم يقبله إلا المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نستقبله فأنزل الله سبحانه * (ومن كفر) * الخ وإلى إبقائه على ظاهره ذهب ابن عباس، فقد أخرج البيهقي عنه أنه قال في الآية: * (ومن كفر) * بالحج فلم ير حجه برا ولا تركه مأثما، وروى ابن جرير أن الآية لما نزلت قام رجل من هذيل فقال: يا رسول الله من تركه كفر؟ قال: " من تركه لا يخاف عقوبته ومن حج لا يرجو ثوابه فهو ذاك "، وعلى كلا الاحتمالين لا تصلح الآية دليلا لمن زعم أن مرتكب الكبيرة كافر، و * (من) * تحتمل أن تكون شرطية وهو الظاهر وأن تكون موصولة، وعلى الاحتمالين استغنى فيما بعد الفاء عن الرابط بإقامة الظاهر مقام المضمر إذ الأصل فإن الله غني عنهم. ويجوز أن يبقى الجمع على عمومه ويكتفى عن الضمير الرابط بدخول المذكورين فيه دخولا أوليا والاستغناء في هذا المقام كناية عن السخط على ما قيل، ولهذا صح جعله جزاءا وإن أبيت فهو دليله. وفي الآية - كما قالوا - فنون من الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه، وعدوا من ذلك إيثار صيغة الخبر وإبرازها في صورة الجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام على وجه يفيد أنه حق واجب لله تعالى في ذمم الناس وتعميم الحكم أولا وتخصيصه ثانيا وتسمية ترك الحج كفرا من حيث إنه فعل الكفرة وذكر الاستغناء والعالمين. وذكر الطيبي أن في تخصيص اسم الذات الجامع وتقديم الخبر الدلالة على أن ذلك عبادة لا ينبغي أن تختص إلا بمعبود جامع للكمالات بأسرها وأن في إقامة المظهر وهو البيت مقام المضمر بعد سبقه منكرا المبالغة في وصفه أقصى الغاية كأنه رتب الحكم على الوصف المناسب؛ وكذا في ذكر الناس بعد ذكره معرفا الإشعار بعلية الوجوب وهو كونهم ناسا، وفي تذييل * (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) * لأنها في المعنى تأكيد الإيذان بأن ذلك هو الإيمان على الحقيقة وهو النعمة العظيمة وأن مباشره مستأهل لأن الله تعالى بجلالته وعظمته يرضى عنه رضا كاملا كما كان ساخطا على تاركه سخطا عظيما، وفي تخصيص هذه العبادة وكونها مبينة لملة
(١٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 ... » »»