تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢ - الصفحة ١٧٢
له حاجب عن كل أمر يشينه * وليس له عن طالب العرف حاجب وهذا كما ترى ناشىء من كمال - إيمانهم بالله واليوم الآخر - وتصديقهم بأنه سبحانه لا يعجزه إحياء الموتى كما لا يعجزه إماتة الأحياء فضلا عن نصرة الضعفاء فلا ريب في أن ما في حيز الصلة مما له كمال ملاءمة للحكم الوارد على الموصول لا سيما وقد أخذ فيه إذن الله تعالى وحكمه، ومن لا يؤمن بلقاء الله تعالى لا يكاد يقرب من هذا القيد قيد شبر فاندفع بهذا ما قاله - مولانا مفتي الديار الرومية - من أن هذا الجواب كما ترى ناشىء من كمال ثقتهم بنصر الله تعالى وتوفيقه ولا دخل في ذلك لظن لقاء الله تعالى بالبعث ولا لتوقع ثوابه عز شأنه، ولا ريب في أن ما ذكر في حيز الصلة ينبغي أن يكون مدارا للحكم الوارد على الموصول ولا أقل من أن يكون وصفا ملائما له فإن الملائمة على ما جاد به هذا الذهن الكليل حصلت على أتم وجه وأكمله فلا حاجة في تحصيلها إلى ما ذكره رحمه الله تعالى بعد من إخراج اللفظ عن ظاهره الشائع استعماله فيه إلى يوم ملاقاته تعالى وحمل ملاقاته سبحانه على ملاقاة نصره تعالى وتأييده وجعل التعبير بذلك عنه مبالغة فإنه بمعزل عن استعمال ذلك في جميع الكتاب المجيد وليس هو من قبيل قوله تعالى: * (والله مع الص‍ابرين) * المراد منه المعية بالنصر والإحسان لأنه في سائر القرآن مألوف استعماله في مثل ذلك كما لا يخفى، وهو يحتمل أن يكون من كلام الأعلين أتى به تكميلا للتشجيع وترغيبا بالصبر بالإشارة إلى ما فيه، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام من جهته تعالى جىء به تقريرا لكلامهم ودعاءا للسامعين إلى مثل حال هؤلاء المشير إليها مقالهم.
* (ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنآ أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الك‍افرين) * * (ولما برزوا) * أي ظهر طالوت ومن معه وصاروا في براز من الأرض وهو ما انكشف منها واستوى * (لجالوت وجنوده) * أي لمحاربتهم وقتالهم * (قالوا) * جميعا بعد أن قويت قلوب الضعفاء متضرعين إلى الله تعالى متبرئين من الحول والقوة. * (ربنآ أفرغ علينا صبرا) * أي صب ذلك علينا ووفقنا له، والمراد به حبس النفس للقتال * (وثبت أقدامنا) * أي هب لنا كمال القوة والرسوخ عند المقارعة بحيث لا تتزلزل، وليس المراد بتثبيت الأقدام مجرد تقررها في حيز واحد إذ ليس في ذلك كثير جدوى * (وانصرنا على القوم الك‍افرين) * أي أعنا عليهم بقهرهم وهزمهم، ووضع (الكافرين) موضع الضمير العائد إلى - جالوت وجنوده - للإشعار بعلة النصر عليهم، وفي هذا الدعاء من اللطافة وحسن الأسلوب والنكات ما لا يخفى، أما أولا: فلأن فيه التوسل بوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال، وأما ثانيا: فلأن فيه الإفراغ، وهو يؤذن بالكثرة، وفيه جعل الصبر بمنزلة الماء المنصب عليهم لثلج صدورهم وإغنائهم عن الماء الذي منعوا عنه، وأما ثالثا: فلأن فيه التعبير - بعلى - المشعر بجعل ذلك كالظرف وجعلهم كالمظروفين، وأما رابعا: فلأن فيه تنكير صبرا المفصح عن التفخيم، وأما خامسا: فلأن في الطلب الثاني وهو تثبيت الأقدام ما يرشح جعل الصبر بمنزلة الماء في الطلب الأول إذ مصاب الماء مزالق فيحتاج فيها إلى التثبت، وأما سادسا: فلأن فيه حسن الترتيب حيث طلبوا أولا: إفراغ الصبر على قلوبهم عند اللقاء وثانيا: ثبات القدم والقوة على مقاومة العدو حيث أن الصبر قد يحصل لمن لا مقاومة له، وثالثا: العمدة والمقصود من المحاربة وهو النصرة على الخصم حيث إن الشجاعة بدون النصرة طريق عتبته عن النفع خارجة، وقيل: إنما طلبوا أولا: إفراغ الصبر لأنه ملاك الأمر، وثانيا: التثبيت لأنه متفرع عليه، وثالثا: النصر لأنه الغاية القصوى، واعترض
(١٧٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 166 167 168 169 170 171 172 173 174 175 176 » »»