تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ٩٠
وعندي وهو من نسائم الأسحار أن الله سبحانه بعد أن ذكر يوم الدين وهو يوم القيامة التفت إلى الخطاب للإشارة إلى أنه إذا قامت القيامة على ساق وكان إلى ربك يومئذ المساق هنالك يفوز المؤمن بلذة الحضور ويتبلج جبينه بأنوار الفرح والسرور ويخلو به الديان وليس بينه وبينه ترجمان ويكشف الحجاب وتدور بين الأحباب كؤس الخطاب، فتأمل في عظيم الرحمة كيف قرن سبحانه هذا الترهيب برحمتين فصرح قبل يوم الدين بما صرح ورمز بعد ذكره بما رمز ولن يغلب عسر يسرين. ومن باب الإشارة أن يوم الدين تلويح إلى مقام الفناء لأنه موت النفس عن شهواتها وخروجها عن جسد تعلقها بالأغيار والتفاتها ومن مات فقد قامت قيامته فعند ذلك يحصل البقاء في جنة الشهود ويتحقق الجمع في مقام صدق عند المليك المعبود وفوق هذا مقام آخر لا يفي بتقريره الكلام ولا تقدر على تحريره الأقلام بل لا يزيده البيان إلا خفاء ولا يكسبه التقريب إلا بعدا واعتلاء. ولو أن ثوبا حيك من نسج تسعة * وعشرين حرفا في علاه قصير اللهم أغرقنا في بحار مشاهدتك ومن علينا بخندريس وحدتك حتى لا نحدث إلا عنك ولا نسمع إلا منك ولا نرى إلا إياك، هذا وقد ذكر الإمام السيوطي نقلا عن الشيخ بهاء الدين أنه قال اتفقوا على أن فيما نحن فيه التفاتا واحدا وفيه نظر لأن الزمخشري ومن تابعه على أن الالتفات خلاف الظاهر مطلقا فإن كان التقدير قولوا الحمد لله ففي الكلام المأمور به التفاتان، أحدهما في لفظ الجلالة وأصله الحمد لك لأنه تعالى حاضر، والثاني في * (إياك) * لمجيئه على خلاف أسلوب ما قبله وإن لم يقدر كان في الحمد لله التفات من التكلم للغيبة لأنه تعالى حمد نفسه ولا يكون في * (إياك) * التفات لتقدير قولوا معها قطعا فأحد الأمرين لازم للزمخشري والسكاكي إما أن يكون في الآية التفاتان أو لا يكون التفات أصلا هذا إن قلنا برأي السكاكي كما يشعر به كلام الزمخشري في " الكشاف " لأنه جعل في الشعر الذي ذكره ثلاث التفاتات وإن قلنا برأي الجمهور ولم نقدر قولوا إياك نعبد فإن قدر قولوا قبل الحمد لله كان فيه التفات واحد وبطل قول الزمخشري إن في البيت ثلاث التفاتات انتهى. وهو كلام يغني النظر فيه عن شرح حاله فليفهم.
البحث الخامس: في سر تكرار * (إياك) * فقيل للتنصيص على طلب العون منه تعالى فإنه لو قال سبحانه: إياك نعبد ونستعين لاحتمل أن يكون إخبارا بطلب المعونة من غير أن يعين ممن يطلب وقيل إنه لو اقتصر على واحد ربما توهم أنه لا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالجمع بينهما والواقع خلافه. وقيل إنه جمع بينهما للتأكيد كما يقال الدار بين زيد وبين عمرو وفيه أن التكرير إنما يكون تأكيدا إذا لم يكن معمولا لفعل ثان وإياك الثاني في الآية معمول لنستعين مفعول له فكيف يكون تأكيدا، وقيل إنه تعليم لنا في تجديد ذكره تعالى عند كل حاجة، وعندي أن التكرار للإشعار أن حيثية تعلق العبادة به تعالى غير حيثية تعلق طلب الاستعانة منه سبحانه ولو قال: إياك نعبد ونستعين لتوهم أن الحيثية واحدة والشأن ليس كذلك إذ لا بد في طلب الإعانة من توسط صفة ولا كذلك في العبادة فلاختلاف التعلق أعاد المفعول ليشير بها إليه. البحث السادس: في سر إطلاق الاستعانة فقيل ليتناول كل مستعان فيه فالحذف هنا مثله في قولهم فلان يعطي في الدلالة على العموم ورجح بلزوم الترجيح بلا مرجح في الحمل على البعض وأيضا قرينة التقييد خفية وبأنه المروي عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وبأن عموم المفعول متضمن لنفي الحول والقوة عن نفسه والانقطاع بالكلية إليه تعالى عمن سواه فهو أولى بمقام العبادة وإلى ترجيحه يشير صنيع العلامة البيضاوي، وقال صاحب " الكشاف ": الأحسن أن يراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة ويكون قوله تعالى: * (اهدنا) * بيانا للمطلوب من المعونة
(٩٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 ... » »»