تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ٣٤١
نفسا ففعلا ثم تعلمت منهما ما صعدت به إلى السماء، فصعدت ومسخت هذا - النجم - وأرادا العروج فلم يمكنهما فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة - فاختارا عذاب الدنيا - فهما الآن يعذبان فيها، إلى غير ذلك من الآثار التي بلغت طرقها نيفا وعشرين، فقد أنكره جماعة منهم القاضي عياض، وذكر أن ما ذكره أهل الأخبار ونقله المفسرون في قصة هاروت وماروت لم يرد منه شيء - لا سقيم ولا صحيح - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وليس هو شيئا يؤخذ بالقياس - وذكر في " البحر " أن جميع ذلك لا يصح منه شيء، ولم يصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلعن الزهرة، ولا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما خلافا لمن رواه، وقال الإمام الرازي بعد أن ذكر الرواية في ذلك إن هذه الرواية فاسدة مردودة غير مقبولة، ونص الشهاب (العراقي) على أن من اعتقد في هاروت وماروت أنهما ملكان يعذبان على خطيئتهما مع الزهرة فهو كافر بالله تعالى العظيم، فإن الملائكة معصومون * (لا يعصون اللهما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) * (التحريم: 6) * (لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون) * (الأنبياء: 19) * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) * (الأنبياء: 20) والزهرة كانت يوم خلق الله تعالى السموات والأرض، والقول بأنها تمثلت لهما فكان ما كان وردت إلى مكانها غير معقول ولا مقبول. واعترض الإمام السيوطي على من أنكر القصة بأن الإمام أحمد وابن حبان والبيهقي وغيرهم رووها مرفوعة وموقوفة على علي وابن عباس وابن عمر وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم بأسانيد عديدة صحيحة يكاد الواقف عليها يقطع بصحتها لكثرتها وقوة مخرجيها، وذهب بعض المحققين أن ما روي مروي حكاية لما قاله اليهود - وهو باطل في نفسه - وبطلانه في نفسه لا ينافي صحة الرواية، ولا يرد ما قاله الإمام السيوطي عليه، إنما يرد على المنكرين بالكلية، ولعل ذلك من باب الرموز والإشارات، فيراد من الملكين العقل النظري والعقل العملي اللذان هما من عالم القدس، ومن المرأة المسماة بالزهرة - النفس الناطقة - ومن تعرضهما لها تعليمهما لها ما يسعدها، ومن حملها إياهما على المعاصي تحريضها إياهما بحكم الطبيعة المزاجية إلى الميل إلى السفليات المدنسة لجوهريهما، ومن صعودها إلى السماء بما تعلمت منهما عروجها إلى الملأ الأعلى ومخالطتها مع القدسيين بسبب انتصاحها لنصحهما، ومن بقائهما معذبين بقاؤهما مشغولين بتدبير الجسد وحرمانهما عن العروح إلى سماء الحضرة، لأن طائر العقل لا يحوم حول حماها. ومن الأكابر من قال في حل هذا الرمز: إن الروح والعقل للذين هما من عالم المجردات قد نزلا من سماء التجرد إلى أرض التعلق، فعشقا البدن الذي هو كالزهرة في غاية الحسن والجمال لتوقف كمالهما عليه، فاكتسبا بتوسطه المعاصي والشرك وتحصيل اللذات الحسية الدنية، ثم صعد إلى السماء بأن وصل بحسن تدبيرهما إلى الكمال اللائق به، ثم مسخ بأن انقطع التعلق وتفرقت العناصر، وهما بقيا معذبين بعذاب الحرمان عن الاتصال بعالم القدس متألمين بالآلام الروحانية منكوسي الحال حيث غلب التعلق على التجرد وانعكس القرب بالبعد، وقيل: المقصود من ذلك الإشارة إلى أن من كان ملكا إن اتبع الشهوة هبط عن درجة الملائكة إلى درجة البهيمة، ومن كان امرأة ذات شهوة إذا كسرت شهوتها، وغلبت عليها صعدت إلى درج الملك واتصلت إلى سماء المنازل والمراتب، وكتب بعضهم لحله.
مل وأيم الله نفسي نفسي * وطال في مكث حياتي حبسي أصبح في مضاجعي وأمسي * أمسي كيومي وكيومي أمسي يا حبذا يوم نزولي رمسي * مبدأ سعدي وانتهاء نحسي وكل جنس لاحق بالجنس * من جوهر يرقى بدار الأنس
(٣٤١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 336 337 338 339 340 341 342 343 344 345 346 ... » »»