فلم يكتف بنفي السنة، وأيضا فإن الإنسان يقدر على أن يدفع عن نفسه السنة، ولا يقدر على أن يدفع عن نفسه النوم، فقد يأخذه النوم ولا تأخذه السنة، فلو وقع الاقتصار في النظم القرآني على نفي السنة لم يفد ذلك نفي النوم، وهكذا لو وقع الاقتصار على نفي النوم لم يفد نفي السنة، فكم من ذي سنة غير نائم، وكرر حرف النفي للتنصيص على شمول النفي لكل واحد منهما. قوله (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) في هذا الاستفهام من الإنكار على من يزعم أن أحدا من عباده يقدر على أن ينفع أحدا منهم بشفاعة أو غيرها والتقريع والتوبيخ له مالا مزيد عليه، وفيه من الدفع في صدور عباد القبور والصد في وجوههم والفت في أعضادهم مالا يقادر قدره ولا يبلغ مداه، والذي يستفاد منه فوق ما يستفاد من قوله تعالى - ولا يشفعون إلا لمن ارتضى - وقوله تعالى - وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى - وقوله تعالى - لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن - بدرجات كثيرة. وقد بينت الأحاديث الصحيحة الثابتة في دواوين الإسلام صفة الشفاعة، ولمن هي، ومن يقوم بها. قوله (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) الضميران لما في السماوات والأرض بتغليب العقلاء على غيرهم، وما بين أيديهم وما خلفهم عبارة عن المتقدم عليهم والمتأخر عنهم، أو عن الدنيا والآخرة وما فيهما. قوله (ولا يحيطون بشئ من علمه) قد تقدم معنى الإحاطة، والعلم هنا بمعنى المعلوم: أي لا يحيطون بشئ من معلوماته.
قوله (وسع كرسيه) الكرسي الظاهر أنه الجسم الذي وردت الآثار بصفته كما سيأتي بيان ذلك. وقد نفى وجوده جماعة من المعتزلة، وأخطئوا في ذلك خطأ بينا، وغلطوا غلطا فاحشا. وقال بعض السلف: إن الكرسي هنا عبارة عن العلم. قالوا: ومنه قيل للعلماء الكراسي، ومنه الكراسة التي يجمع فيها العلم، ومنه قول الشاعر:
تحف بهم بيض الوجوه وعصبة * كراسي بالأخبار حين تنوب ورجح هذا القول ابن جرير الطبري، وقيل كرسيه: قدرته التي يمسك بها السماوات والأرض، كما يقال اجعل لهذا الحائط كرسيا: أي ما يعمده، وقيل إن الكرسي هو العرش، وقيل هو تصوير لعظمته ولا حقيقة له، وقيل هو عبارة عن الملك. والحق القول الأول، ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقي إلا مجرد خيالات تسببت عن جهالات وضلالات، والمراد بكونه وسع السماوات والأرض أنها صارت فيه وأنه وسعها ولم يضق عنها لكونه بسيطا واسعا. وقوله (ولا يؤوده حفظهما) معناه لا يثقله ثقالة أدنى الشئ، بمعنى أثقلني وتحملت منه مشقة.
وقال الزجاج: يجوز أن يكون الضمير في قوله (يؤوده) لله سبحانه، ويجوز أن يكون للكرسي لأنه من أمر الله (والعلى) يراد به علو القدرة والمنزلة. وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال ابن عطية: وهذه أقوال جهلة مجسمين، وكان الواجب أن لا تحكي انتهى. والخلاف في إثبات الجهة معروف في السلف والخلف، والنزاع فيه كائن بينهم، والأدلة من الكتاب والسنة معروفة، ولكن الناشئ على مذهب يرى غيره خارجا عن الشرع ولا ينظر في أدلته ولا يلتفت إليها، والكتاب والسنة هما المعيار الذي يعرف به الحق من الباطل، ويتبين به الصحيح من الفاسد - ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض - ولا شك أن هذا اللفظ يطلق على الظاهر الغالب كما في قوله - إن فرعون علا في الأرض - وقال الشاعر:
فلما علونا واستوينا عليهم * تركناهم صرعى لنسر وكاسر والعظيم بمعنى عظم شأنه وخطره. قال في الكشاف: إن الجملة الأولى بيان لقيامة بتدبير الخلق وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه. والثانية بيان لكونه مالكا لما يدبره. والجملة الثالثة بيان لكبرياء شأنه. والجملة الرابعة بيان