تفسير أبي السعود - أبي السعود - ج ١ - الصفحة ٦٠
يحصل التركيب المعتبر في التمثيل كما مر مرارا وأما جعل المشبه إرادته تعالى في الاستعارة والتمثيل فأمر مؤسس على قاعدة الاعتزال القائلة بجواز تخلف المراد عن إرادته تعالى فالجملة حال إما من فاعل خلقكم طالبا منكم التقوى أو من مفعوله وما عطف عليه بطريق تغليب المخاطبين على الغائبين لأنهم المأمورون بالعبادة أي خلقكم وإياهم مطلوبا منكم التقوى أو عله له فإن خلقهم على تلك الحال في معنى خلقهم لأجل التقوى كأنه قيل خلقكم لتتقوا أو كي تتقوا أما بناء على تجويز تعليل افعاله تعالى بأغراض راجعه إلى العباد كما ذهب إليه كثير من أهل السنة واما تنزيلا لترتب الغاية على ما هي ثمرة له منزلة ترتب الغرض على ما هو غرض له فإن استتباع أفعاله تعالى لغايات ومصالح متقنة جليلة من غير أن تكون هي علة غائية لها بحيث لولاها لما أقدم عليها مما لا نزاع فيه وتقييد خلقهم بما ذكر من الحال أو العلة لتكميل عليته للمأمور به وتأكيدها فإن إتيانهم بما خلقوا له أدخل في الوجوب وإيثار تتقون على تعبدون مع موافقته لقوله تعالى «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» للمبالغة في إيجاب العبادة والتشديد في الزامها لما أن التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده فإذا لزمتهم التقوى كان ما هو أدنى منها ألزم والإتيان به أهون وأن روعيت جهة المخاطب فلعل في معناها الحقيقي والجملة حال من ضمير اعبدوا كأنه قيل اعبدوا ربكم راجين للانتظام في زمرة المتقين الفائزين بالهدى والفلاح على أن المراد بالتقوى مرتبتها الثالثة التي هي التبتل إلى الله عز وجل بالكلية والتنزه عن كل ما يشغل سره عن مراقبته وهي أقصى غايات العبادة التي يتنافس فيها المتنافسون وبالانتظام القدر المشترك بين انشائه والثبات عليه ليرتجيه أرباب هذه المرتبة وما دونها من مترتبتي التوقي عن العذاب المخلد والتجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك كما مر في تفسير المتقين ولعل توسيط الحال من الفاعل بين وصفي المفعول لما في التقديم من فوات الاشعار بكون الوصف الأول معظم احكام الربوبية وكونه عريقا في ايجاب العبادة وفي التأخير من زيادة طول الكلام هذا على تقدير اعتبار تحقق التوقع بالفعل فأما أن اعتبر تحققه بالقوة فالجملة حال من مفعول خلقكم وما عطف عليه على الطريقة المذكورة أي خلقكم وإياهم حال كونكم جميعا بحيث يرجو منكم كل راج أن تتقوا فإنه سبحانه وتعالى لما براهم مستعدين للتقوى جامعين لمباديها الآفاقية والأنفسية كان حالهم بحيث يرجو منهم كل راج أن يتقوا لا محالة وهذه الحالة مقارنة لخلقهم وأن لم يتحقق الرجاء قطعا واعلم أن الآية الكريمة مع كونها بعبارتها ناطقة بوجوب توحيده تعالى وتحتم عبادته على كافه الناس مرشدة لهم بإشارتها إلى أن مطالعة الآيات التكوينية المنصوبة في الأنفس والآفاق ومما يقضي بذلك قضاء متقنا وقد بين فيها أولا من تلك الآيات ما يتعلق بأنفسهم من خلقهم وخلق أسلافهم لما أنه أقوى شهادة وأظهر دلالة ثم عقب بما يتعلق بمعاشهم فقيل «الذي جعل لكم الأرض فراشا» وهو في محل النصب على أنه صفة ثانية لربكم موضحة أو مادحة أو على تقدير أخص أو أمدح أو في محل الرفع
(٦٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 مقدمة قاضي القضاة أبو السعود 3
2 (الجزء الأول) 1 - سورة الفاتحة 7
3 2 - سورة البقرة 20
4 تفسير قوله تعالى إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها 71
5 أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم 97
6 وإذا استسقى موسى لقومه 105
7 أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون 116
8 ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون 130
9 ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير 142
10 وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن 154
11 (الجزء الثاني) سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها 170
12 إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما 181
13 ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر 192
14 يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها 203
15 واذكروا الله في أيام معدودات 210
16 يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما 218
17 والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة 230
18 ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت 237
19 (الجزء الثالث) تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض 245
20 قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حميد 258
21 ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء 264
22 وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة 271