تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٢٣
هي كقوله: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا) *. وقول حسان:
* فشركما لخيركما الفداء وكأنه قيل: عظيمون درجة. وعند الله بالمكانة لا بالمكان كقوله: * (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته) * قال أبو عبد الله الرازي: الأرواح المقدسة البشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية أشرقت بأنوار الجلال وغلا فيها أضواء عالم الجمال، وترقت من العبدية إلى العندية، بل كأنه لا كمال في العبدية إلا بمشاهدة الحقيقة العندية، ولذلك قال تعالى: * (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا) * انتهى، وهو شبيه بكلام الصوفية، ثم ذكر تعالى أن من اتصف بهذه الأوصاف هو الفائز الظافر بأمنيته، الناجي من النار.
* * (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم) * قال ابن عباس: هي في المهاجرين خاصة انتهى، وأسند التبشير إلى قوله: ربهم، لما في ذلك من الإحسان إليهم بأن مالك أمرهم والناظر في مصالحهم هو الذي يبشرهم، فذلك على تحقيق عبوديتهم لربهم. ولما كانت الأوصاف التي تحلوا بها وصاروا بها عبيدة حقيقة هي ثلاثة: الإيمان، والهجرة، والجهاد بالمال والنفس، قوبلوا ي التبشير بثلاثة: الرحمة، والرضوان، والجنات. فبدأ بالرحمة لأنها الوصف الأعم الناشئ عنها تيسير الإيمان لهم، وثنى بالرضوان لأنه الغاية من إحسان الرب لعبده وهو مقابل الجهاد، إذ هو بذل النفس والمال، وقد على الجنات لأن رضا الله عن العبد أفضل من إسكانهم الجنة. وفي الحديث الصحيح: (إن الله تعالى يقول: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك، فيقول: لكم عندي أفضل من ذلك، فيقولون: وما أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعدها) وأتى ثالثا بقوله: وجنات لهم فيها نعيم مقيم، أي دائم لا ينقطع. وهذا مقابل لقوله (وهاجروا) لأنهم تركوا أوطانهم التي نشأوا فيها وكانوا فيها منعمين، فآثروا الهجرة على دار الكفر إلى مستقر الإيمان والرسالة، فقوبلوا على ذلك بالجنات ذوات النعيم الدائم، فجاء الترتيب في أوصافهم على حسب الواقع: الإيمان، ثم الهجرة، ثم الجهاد. وجاء الترتيب في المقابل على حسب الأعم، ثم الأشرف، ثم التكميل. قال التبريزي: ونكر الرحمة والرضوان للتفخيم والتعظيم. برحمة أي: رحمة لا يبلغها وصف واصف.
وقرأ الأعمش، وطلحة بن مصرف، وحميد بن هلال: يبشرهم بفتح الياء وضم الشين خفيفة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: ورضوان بضم الراء، وتقدم ذكر ذلك في أوائل آل عمران. وقرأ الأعمش: بضم الراء والضاد معا. قال أبو حاتم: لا يجوز هذا انتهى. وينبغي أن يجوز، فقد قالت العرب: سلطان بضم اللام، وأورده التصريفيون في أبنية الأسماء.
* (عظيم ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا ءاباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) * كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ويصادم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم، فقالوا: يا رسول الله، إن نحن اعتزلنا من يخالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا، وذهبت كادتنا وهلكت أموالنا، وخرجت ديارنا، ويقينا ضائعين، فنزلت. فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه، ثم رخص لهم بعد ذلك. فعلى هذا الخطاب للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها من بلاد العرب خوطبوا أن لا يوالوا الآباء والإخوة، فيكونوا لهم تبعا في سكنى بلاد الكفر. وقيل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة، فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم. وذكر الآباء والإخوان لأنهم أهل الرأي والمشورة، ولم يذكر الأبناء لأنهم في الغالب تبع لآبائهم.
وقرأ عيسى بن عمران: استحبوا بفتح الهمزة جعله تعليلا، وغيره بكسر الهمزة جعله شرطا. ومعنى استحبوا: آثروا وفضلوا، استفعل من المحبة أي طلبوا محبة الكفر. وقيل: بمعنى أحب. وضمن معنى اختار وآثر، ولذلك عدي بعلى. ولما نهاهم عن اتخاذهم أولياء أخبر أن من تولاهم فهو ظالم، فقال ابن عباس: هو مشرك
(٢٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 ... » »»