تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٧١
جواز الابتداء بالنكرة هنا هو التقييد بالمجرور الذي هو: لهم، فإما أن يكون على سبيل الوصف، أو على سبيل المعمول للمصدر، و: خير، خبر عن إصلاح، وإصلاح كما ذكرنا مصدر حذف فاعله، فيكون: خير، شاملا للإصلاح المتعلق بالفاعل والمفعول، فتكون الخيرية للجانبين معا، أي إن إصلاحهم لليتامى خير للمصلح، والمصلح فيتناول حال اليتيم، والكفيل، وقيل: خير للولي، والمعنى: إصلاحه من غير عوض ولا أجرة خير له وأعظم أجرا، وقيل: خير، عائد لليتيم، أي: إصلاح الولي لليتيم، ومخالطته له، خير لليتيم من إعراض الولي عنه، وتفرده عنه، ولفظ: خير، مطلق فتخصيصه بأحد الجانبين يحتاج إلى مرجح، والحمل على الإطلاق أحسن.
وقرأ طاووس: قل إصلاح إليهم، أي: في رعاية المال وغيره خير من تحرجكم، أو خير في الثواب من إصلاح أموالكم.
* (وإن تخالطوهم فإخوانكم) * هذا التفات من غيبة إلى خطاب لأن قبله و: يسألونك، قالوا وضمير للغائب، وحكمة هذا الالتفات ما في الإقبال بالخطاب على المخاطب ليتهيأ لسماع ما يلقى إليه وقبوله والتحرز فيه، فالواو ضمير الكفلاء، وهم ضمير اليتامى، والمعنى: أنهم إخوانكم في الدين، فينبغي أن تنظروا لهم كما تنظرون لإخوانكم من النسب من الشفقة والتلطف والإصلاح لذواتهم وأموالهم.
والمخالطة مفاعلة من الخلط وهو الامتزاج، والمعنى: في المأكل، فتجعل نفقة اليتيم مع نفقة عياله بالتحري، إذ يشق عليه إفراده وحده بطعامه، فلا يجد بدا من خلطه بماله لعياله، فجاءت الآية بالرخصة في ذلك، قاله أبو عبيد. أو: المشاركة في الأموال والمتاجرة لهم فيها، فتتناولون من الربح ما يختص بكم، وتتركون لهم ما يختص بهم. أو: المصاهرة فإن كان اليتيم غلاما زوجه ابنته، أو جارية زوجها ابنه ورجح هذا القول بأن هذا خلطة لليتيم نفسه، والشركة خلطة لماله، ولأن الشركة داخلة في قوله: * (قل إصلاح لهم * خير) * ولم يدخل فيه الخلط من جهة النكاح، فحمله على هذا الخلط أقرب. وبقوله: فإخوانكم في الدين، فإن اليتيم إذا كان من أولاد الكفار وجب أن يتحرى صلاح ماله كما يتحرى في المسلم، فوجب أن تكون الإشارة بقوله: فإخوانكم، إلى نوع آخر من المخالطة، وبقوله بعد: ولا تنكحوا المشركات، فكأن المعنى: إن المخالطة المندوب إليها في اليتامى الذين هم لكم إخوان بالإسلام. أو الشرب من لبنه وشربه من لبنك، وأكلك في قصعته وأكله في قصعتك، قاله ابن عباس. أو: خلط المال بالمال في النفقة والمطعم والمسكن والخدم والدواب، فيتناولون من أموالهم عوضا عن قيامكم بأمورهم، بقدر ما يكون أجرة مثل ذلك في العمل، والقائلون بهذا منهم من جوز له ذلك، سواء كان القيم غنيا وفقيرا، ومنهم من قال: إذا كان غنيا لم يأكل من ماله. أو: المضاربة التي يحصل بها تنمية أموالهم. والذي يظهر أن المخالطة لم تقيد بشيء لم يقل في كذا فتحمل على أي: مخالطة كانت مما فيه إصلاح لليتيم، ولذلك قال: فإخوانكم، أي: تنظرون لهم نظركم إلى إخوانكم مما فيه إصلاحهم.
وقد اكتنف هذه المخالطة الإصلاح قبل وبعد، فقبل بقوله: * (قل إصلاح لهم * خير) * وبعد بقوله: * (والله يعلم المفسد من المصلح) * فالأولى أن يراد بالمخالطة ما فيه إصلاح لليتيم بأي: طريق كان، من مخالطة في مطعم أو مسكن أو متاجرة أو مشاركة أو مصاهرة أو غير ذلك.
وجواب الشرط فإخوانكم، وهو خبر مبتدأ محذوف أي: فهم إخوانكم، وقرأ أبو مجلز: فإخوانكم على إضمار فعل التقدير: فتخالطون إخوانكم، وجاء جواب السؤال بجملتين: إحداهما: منعقدة من مبتدأ وخبر؛ والثانية: من شرط وجزاء.
فالأولى: تتضمن إصلاح اليتامى وأنه خير، وأبرزت ثبوتية منكرا مبتدأها ليدل على تناوله كل إصلاح على طريق البدلية، ولو أضيف عم، أو لكان معهودا في إصلاح خاص، فالعموم لا يمكن وقوعه، والمعهود لا يتناول غيره، فلذلك جاء التنكير الدال على عموم البدل، وأخبر عنه: بخير، الدال على تحصيل الثواب، لتبادر المسلم إلى فعل ما فيه الخير طلبا لثواب الله تعالى.
وأبرزت الثانية: شرطية لأنها أتت لجواز الوقوع لا لطلبه وندبته.
ودل الجواب الأول على ضروب من الأحكام مما فيه مصلحة اليتيم، لجواز تعليمه أمر دين وأدب، والاستئجار له على ذلك، وكالإنفاق عليه من ماله، وقبول ما يوهب له، وتزويجهم مؤاجرته، وبيعه ماله لليتيم، وتصرفه في ماله بالبيع والشراء، وفي عمله فيه بنفسه مضاربة، ودفعه إلى غيره مضاربة، وغير ذلك من التصرفات المنوطة بالإصلاح.
(١٧١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 166 167 168 169 170 171 172 173 174 175 176 ... » »»