الثالثة - قوله تعالى: (إذ نادى ربه نداء خفيا) مثل قوله: " ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين " [الأعراف: 55] (1) وقد تقدم. والنداء الدعاء والرغبة، أي ناجى ربه بذلك في محرابه. دليله قوله: " فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب " (2) [آل عمران: 39] فبين أنه استجاب له في صلاته، كما نادى في الصلاة. واختلف في إخفائه هذا النداء، فقيل: أخفاه من قومه لئلا يلام على مسألة الولد عند كبر السن، ولأنه أمر دنيوي، فإن أجيب فيه نال بغيته، وإن لم يجب لم يعرف بذلك أحد. وقيل: مخلصا فيه لم يطلع عليه إلا الله تعالى. وقيل:
لما كانت الأعمال الخفية أفضل وأبعد من الرياء أخفاه. وقيل: " خفيا " سرا من قومه في جوف الليل، والكل محتمل والأول أظهر، والله أعلم. وقد تقدم أن المستحب من الدعاء الاخفاء في سورة " الأعراف " (1) وهذه الآية نص في ذلك، لأنه سبحانه أثنى بذلك على زكريا. وروى إسماعيل قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن أسامة بن زيد عن محمد بن عبد الرحمن وهو ابن أبي كبشة عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي) وهذا عام. قال يونس بن عبيد: كان الحسن يرى أن يدعو الامام في القنوت ويؤمن من خلفه من غير رفع صوت، وتلا يونس:
" إذ نادى ربه نداء خفيا ". قال ابن العربي: وقد أسر مالك القنوت وجهر به الشافعي، والجهر به أفضل، لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو به جهرا.
قوله تعالى: (قال رب إني وهن العظم منى) فيه مسألتان (3):
الأولى - قوله تعالى: " قال رب إني وهن " قرئ " وهن " بالحركات الثلاث أي ضعف. يقال: وهن يهن وهنا إذا ضعف فهو واهن. وقال أبو زيد يقال: وهن يهن ووهن يوهن. وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن، وبه قوامه، وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقط سائر قوته، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن