معجزا إلى الدلائل الدقيقة لم يعتروا بالشبهات القوية العظيمة، وذلك يدل على أن هذه الأمة خير من أولئك وأكمل عقلا وأزكى خاطرا منهم. وثانيها: أنه عليه الصلاة والسلام ذكر هذه الحكاية مع أنه لم يتعلم علما، وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام استفادها من الوحي. وثالثها: فيه تحذير عظيم من التقليد والجهل بالدلائل فإن أولئك الأقوام لو أنهم عرفوا الله بالدليل معرفة تامة لما وقعوا في شبهة السامري. ورابعها: في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم مما كان يشاهد من مشركي العرب واليهود والنصارى بالخلاف عليه وكأنه تعالى أمره بالصبر على ذلك كما صبر موسى عليه الصلاة والسلام في هذه الواقعة النكدة فإنهم بعد أن خلصهم الله من فرعون وأراهم المعجزات العجيبة من أول ظهور موسى إلى ذلك الوقت اغتروا بتلك الشبهة الركيكة، ثم إن موسى عليه السلام صبر على ذلك فلأن يصبر محمد عليه الصلاة والسلام على أذية قومه كان ذلك أولى. وخامسها: أن أشد الناس مجادلة مع الرسول صلى الله عليه وسلم وعداوة له هم اليهود فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء إنما يفتخرون بأسلافهم، ثم إن أسلافهم كانوا في البلادة والجهالة والعناد إلى هذا الحد فكيف هؤلاء الأخلاف.
أما قوله تعالى: * (وأنتم ظالمون) * ففيه أبحاث:
البحث الأول: في تفسير الظلم وفيه وجهان. الأول: قال أبو مسلم الظلم في أصل اللغة هو النقص، قال الله تعالى: * (كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا) * (الكهف: 33)، والمعنى أنهم لما تركوا عبادة الخالق المحيي المميت واشتغلوا بعبادة العجل فقد صاروا ناقصين في خيرات الدين والدنيا. والثاني: أن الظلم في عرف الشرع عبارة عن الضرر الخالي من نفع يزيد عليه ودفع مضرة أعظم منه والاستحقاق عن الغير في علمه أو ظنه، فإذا كان الفعل بهذه الصفة كان فاعله ظالما ثم إن الرجل إذا فعل ما يؤديه إلى العقاب والنار قيل: إنه ظالم نفسه وإن كان في الحال نفعا ولذة كما قال تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13)، وقال: * (فمنهم ظالم لنفسه) * (فاطر: 32) ولما كانت عبادتهم لغير الله شركا (وكان الشرك مؤديا إلى النار سمي ظلما.
البحث الثاني: استدلت المعتزلة بقوله: * (وأنتم ظالمون) * على أن المعاصي ليست بخلق الله تعالى من وجوه، أحدها: أنه تعالى ذمهم عليها ولو كانت مخلوقة لله تعالى لما استحق الذم إلا من فعلها. وثانيها: أنها لو كانت بإرادة الله تعالى لكانوا مطيعين لله تعالى بفعلها لأن الطاعة عبارة عن فعل المراد. وثالثها: لو كان العصيان مخلوقا لله تعالى لكان الذم بسببه يجري مجرى الذم بسبب كونه أسود وأبيض وطويلا وقصيرا، والجواب: هذا تمسك بفعل المدح والذم وهو معارض بمسألتي الداعي والعلم ذلك مرارا.
البحث الثالث: في الآية تنبيه على أن ضرر الكفر لا يعود إلا عليهم لأنهم ما استفادوا بذلك إلا أنهم ظلموا أنفسهم، وذلك يدل على أن جلال الله منزه عن الاستكمال بطاعة الأتقياء والانتقاص بمعصية الأشقياء.