من غير رد له إلى المحكم وحمله على موافقته في معناه، وحكم عليهم بالزيغ في قلوبهم بقوله: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله [آل عمران: 7]. وإذا ثبت أن قوله: (كتب عليكم القصاص) محكم، وقوله: (فمن عفي له من أخيه شئ) متشابه، وجب حمل معناه على معنى المحكم من غير مخالفة له ولا إزالة لشئ من حكمه، وهو أن يكون على أحد الوجوه التي ذكرنا مما لا ينفي موجب لفظ الآية من القصاص، من غير معنى آخر يضم إليه ولا عدول عنه إلى غيره. وكذلك قوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) [البقرة: 194] إذ كانت النفس مثلا فيما يستحقه الولي وهو القود، فإذا كان المثل هو القود وإتلاف نفسه كما أتلف كان بمنزلة متلف المال الذي له مثل ولا يعدل عنه إلى غيره إلا بالتراضي لقوله تعالى: (بمثل ما اعتدى عليكم) [البقرة: 194] وبدلالة الأصول عليه.
واحتج من أوجب للولي الخيار بين القود وأخذ المال من غير رضى القاتل بأخبار منها: حديث يحيى بن كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يودي) وحديث يحيى بن سعيد عن أبي ذيب قال: حدثني سعيد المقبري قال: سمعت أبا شريح الكعبي يقول: قال النبي عليه السلام في خطبته يوم فتح مكة: (ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله، فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين: بين أن يأخذوا العقل وبين أن يقتلوا) أو ورواه محمد بن إسحاق، عن الحرث بن فضيل، عن سفيان، عن أبي العرجاء، عن أبي شريح الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصيب بدم أو بخبل - يعني الجراح - فوليه بالخيار بين إحدى ثلاث: بين العفو أو يقتص أو يأخذ الدية). وهذه الأخبار غير موجبة لما ذكروا لاحتمالها أن يكون المراد أخذ الدية برضى القاتل كما قال تعالى: (فإما منا بعد وإما فداء) [محمد: 4] والمعنى: فداء برضى الأسير. فاكتفى بالمحذوف عن ذكره لعلم المخاطبين عند ذكر المال بأنه لا يجوز إلزامه إياه بغير رضاه. كذلك قوله: (أو يأخذ الدية) وقوله: (أو يودي) وكما يقول القائل لمن له دين على غيره: إن شئت فخذ دينك دراهم وإن شئت دنانير. وكما قال عليه السلام لبلال حين أتاه بتمر: (أكل تمر خيبر هكذا؟) فقال: لا، ولكنا نأخذ الصاع منه بالصاعين والصاعين بثلاثة. فقال عليه السلام: (لا تفعلوا! ولكن بع تمرك بعرض ثم خذ بالعرض هذا) ومعلوم أنه لم يرد أن يأخذ التمر بالعرض بغير رضى الآخر، ويكون ذكره الدية إبانة عما نسخه الله عما كان على بني إسرائيل من امتناع أخذ الدية برضى القاتل وبغير رضاه تخفيفا عن هذه الأمة على ما روي عن ابن عباس (أن القصاص كان في بني إسرائيل ولم يكن فيهم أخذ الدية فخفف الله عن هذه الأمة).