الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٤ - الصفحة ٢٠٠
فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا. إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا.
إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا. فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا. واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا. ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا. إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا.
____________________
قلت: هب أنه قيل وحلوا أساور من ذهب ومن فضة وهذا صحيح لا إشكال فيه، على أنهم يسورون بالجنسين إما على المعاقبة وإما على الجمع كما تزاوج نساء الدنيا بين أنواع الحلى وتجمع بينها، وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران سوار من ذهب وسوار من فضة (شرابا طهورا) ليس برجس كخمر الدنيا لان كونها رجسا بالشرع لا بالعقل وليست الدار دار تكليف، أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الاقدام الدنسة ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها، أو لأنه لا يؤل إلى النجاسة لأنه يرشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك: أي يقال لأهل الجنة (إن هذا) وهذا إشارة إلى ما تقدم من عطاء الله لهم ما جوزيتم به على أعمالكم وشكر به سعيكم والشكر مجاز. تكرير الضمير بعد إيقاعه اسما لان تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل ليتقرر في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله على أي وجه نزل إلا حكمة وصوابا كأنه قيل: ما نزل عليك القرآن تنزيلا مفرقا منجما إلا أنا لا غيري، وقد عرفتني حكيما فاعلا لكل ما أفعله بدواعي الحكمة، ولقد دعتني حكمة بالغة إلى أن أنزل عليك الامر بالمكافة والمصابرة، وسأنزل عليك الامر بالقتال والانتقام بعد حين (فاصبر لحكم ربك) الصادر عن الحكمة وتعليقه الأمور بالمصالح وتأخيره نصرتك على أعدائك من أهل مكة، ولا تطع منهم أحدا قلة صبر منك على أذاهم وضجرا من تأخر الظفر. وكانوا مع إفراطهم في العداوة والإيذاء له ولمن معه يدعونه إلى أن يرجع عن أمره ويبذلون له أموالهم وتزويج أكرم بناتهم إن أجابهم.
فإن قلت: كانوا كلهم كفرة فما معنى القسمة في قوله (آثما أو كفورا)؟ قلت: معناه ولا تطع منهم راكبا لما هو إثم داعيا لك إليه، أو فاعلا لما هو كفر داعيا لك إليه، لانهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر أو غير إثم ولاكفر، فنهى أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث. وقيل الاثم عتبة والكفور الوليد، لان عتبة كان ركابا للمآثم متعاطيا لأنواع الفسوق، وكان الوليد غاليا في الكفر شديد الشكيمة في العتو. فإن قلت: معنى " أو " ولا تطع أحدهما فهلا جئ بالواو ليكون نهيا عن طاعتهما جميعا؟ قلت: لو قيل ولا تطعهما جاز أن يطيع أحدهما. وإذا قيل لا تطع أحدهما علم أن الناهي عن الطاعة أحدهما عن طاعتهما جميعا أنهى، كما إذا نهى أن يقول لأبويه " أف " علم أنه منهى عن ضربهما على طريق الأولى (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا) ودم على صلاة الفجر والعصر (ومن الليل فاسجد له) وبعض الليل فصل له، أو يعنى صلاة المغرب والعشاء، وأدخل من على الظرف للتبعيض كما دخل على المفعول في قوله - يغفر لكم من ذنوبكم - (وسبحه ليلا طويلا) وتهجد له هزيعا طويلا من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه (إن هؤلاء) الكفرة (يحبون العاجلة) يؤثرونها على الآخرة كقوله - بل تؤثرون الحياة الدنيا - (وراءهم) قدامهم أو خلف ظهورهم لا يعبئون به (يوما ثقيلا) أستعير الثقل لشدته وهو له
(٢٠٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 195 196 197 198 199 200 201 202 203 204 205 ... » »»