الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٢٥٢
ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون. ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك
____________________
بالحاء نلقيك بناحية مما يلي البحر، وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب البحر. قال كعب: رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور (ببدنك) في موضع الحال: أي في الحال التي لا روح فيك وإنما أنت بدن أو ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شئ ولم يتغير، أو عريانا لست إلا بدنا من غير لباس أو بدرعك. قال عمرو بن معد يكرب:
أعاذل شكتى بدني وسيفي * وكل مقلص سلس القياد وكانت له درع من ذهب يعرف بها، وقرأ أبو حنيفة رحمه الله بأبدانك، وهو على وجهين إما أن يكون مثل قولهم: هوى بأجرامه يعنى ببدنك كله وافيا بأجزائه، أو يريد بدروعك كأنه كان مظاهرا بينها (لمن خلفك آية) لمن وراءك من الناس علامة وهم بنو إسرائيل، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأنا من أن يغرق. وروى أنهم قالوا: ما مات فرعون ولا يموت أبدا. وقيل أخبرهم موسى بهلاكه فلم يصدقوه، فألقاه الله على الساحل حتى عاينوه، وكأن مطرحه كان على ممر من بني إسرائيل حتى قيل لمن خلفك. وقيل لمن خلفك لمن يأتي بعدك من القرون. ومعنى كونه آية: أن تظهر للناس عبوديته ومهانته، وأن ما كان يدعيه من الربوبية باطل محال، وأنه مع ما كان فيه من عظم الشأن وكبرياء الملك آل أمره إلى ما ترون لعصيانه ربه عز وجل، فما الظن بغيره، أو لتكون عبرة تعتبر لها الأمم بعدك فلا يجترئوا على نحو ما اجترأت عليه إذا سمعوا بحالك وبهوانك على الله. وقرئ لمن خلفك بالقاف: أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته، ويجوز أن يراد: ليكون طرحك على الساحل وحدك وتمييزك من بين المغرقين لئلا يشتبه على الناس أمرك، ولئلا يقولوا لادعائك العظمة: إن مثله لا يغرق ولا يموت آية من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وليعلموا أن ذلك تعمد منه لإماطة الشبهة في أمرك (مبوأ صدق) منزلا صالحا مرضيا وهو مصر والشأم (فما اختلفوا) في دينهم وما تشعبوا فيه شعبا إلا من بعدما قرأوا التوراة وكسبوا العلم بدين الحق ولزمهم الثبات عليه واتحاد الكلمة، وعلموا أن الاختلاف فيه تفرق عنه. وقيل هو العلم بمحمد صلى الله عليه وسلم، واختلاف بني إسرائيل وهم أهل الكتاب اختلافهم في صفته ونعته وأنه هو أم ليس بعد ما جاءهم العلم والبيان أنه هو لم يرتابوا فيه، كما قال الله تعالى - الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناهم - فإن قلت: كيف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك) مع قوله في الكفرة - وإنهم لفى شك منه مريب -؟ قلت: فرق عظيم بين قوله - وإنهم لفى شك منه مريب - بإثبات الشك لهم على سبيل التأكيد والتحقيق، وبين قوله - فإن كنت في شك - بمعنى الفرض والتمثيل، كأنه قيل: فإن وقع لك شك مثلا وخيل لك الشيطان
(٢٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 247 248 249 250 251 252 253 254 255 256 257 ... » »»