عمدة القاري - العيني - ج ٢٥ - الصفحة ٤٥
رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته وما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه غير هاذا الأمر.
قال: وقال أبو وائل: شهدت صفين، وبئست صفون.
ا مطابقته للترجمة في قوله: اتهموا رأيكم على دينكم قال الكرماني: وذلك أن سهلا كان يتهم بالتقصير في القتال في صفين، فقال: اتهموا رأيكم، فإني لا أقصر وما كنت مقصرا وقت الحاجة كما في يوم الحديبية، فإني رأيت نفسي يومئذ لو قدرت على مخالفة حكم رسول الله لقاتلت قتالا لا مزيد عليه، لكني أتوقف اليوم لمصالح المسلمين. انتهى. وقال بعضهم: قوله: اتهموا رأيكم على دينكم أي: لا تعملوا في أمر الدين بالرأي المجرد الذي لا يستند إلى أصل من الدين. انتهى. قلت: ما قاله الكرماني أقرب إلى معنى التركيب، وما قاله غيره أقرب إلى الترجمة.
وأخرج الحديث المذكور من طريقين. الأول: عن عبدان لقب عبد الله بن عثمان عن أبي حمزة بالحاء المهملة والزاي محمد بن ميمون السكري عن سليمان الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن سهل بن حنيف بضم الحاء المهملة وفتح النون. والطريق الثاني: عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة بفتح العين المهملة الوضاح اليشكري عن سليمان الأعمش إلى آخره. والحديث مر في كتاب الجزية في باب مجرد بعد: باب إثم من عاهد ثم غدر، فإنه أخرجه هناك عن عبدان عن أبي حمزة عن الأعمش ومضى أيضا في غزوة الحديبية.
قوله: هل شهدت صفين؟ أي: هل حضرت وقعة صفين التي كانت بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وصفين بكسر الصاد المهملة وتشديد الفاء المكسورة وسكون الياء آخر الحروف وبالنون وهو موضع بين الشام والعراق بشاطىء الفرات. قوله: اتهموا رأيكم مر تفسيره الآن. قوله: لقد رأيتني أي: لقد رأيت نفسي يوم أبي جندل وهو يوم من أيام غزوة الحديبية وقصتها مختصرة أنها كانت في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف، وخرج رسول الله إليها في رمضان وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه ومعه المهاجرون والأنصار، وكان الهدي سبعين بدنة والناس سبعمائة رجل فكانت كل بدنة عن عشرة نفر، ولما بلغ الخبر قريشا خرجوا، ونزلوا بذي طوى وعاهدوا الله أن محمدا لا يدخلها أبدا ثم إن بديل بن ورقاء أتى النبي في رجال من خزاعة فسألوه ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أنه لم يأت للحرب بل زائرا للبيت، ورجعوا إلى قريش فأخبروهم به، ثم جرى أمور كثيرة من مراسلات وغيرها إلى أن بعثت قريش سهيل بن عمرو إلى رسول الله بالمصالحة وأن يرجع عامه هذا، وجرى كلام كثير حتى جرى الصلح على وضع الحرب عشر سنين على أن من أتى من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، فبينا رسول الله يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد، قد: انفلت منهم، ولما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه، وقال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: صدقت، فجعل يجر أبا جندل ليرده إلى قريش وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فزاد الناس ذلك هما إلى همهم، فقال رسول الله يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين بمكة فرجا ومخرجا. ولما فرغ الصلح قام النبي إلى هديه فنحره وحلق رأسه، وقام الصحابة كلهم ينحرون ويحلقون رؤوسهم، ثم قفل رسول الله إلى المدينة. قوله: ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته قد ذكرنا أنهم لما اتهموا سهل بن حنيف بالتقصير في القتال في قصة صفين صعب عليه، وقال لهم: أنا لست بمقصر في القتال وقت الحاجة، ولما جاء أبو جندل إلى رسول الله مسلما فرده، إلى المشركين لأجل الصلح المذكور بينهم وبين النبي صعب على سهل ذلك جدا، فقال لهم حين اتهموه بالتقصير في القتال: لو كنت أستطيع رد أبي جندل لرددته، ولكني قصرت لأجل أمر رسول الله فإنه أمر برده ولم يكن يسعني أن أرد أمر رسول الله وقال الكرماني: لم نسب اليوم إلى أبي جندل لا إلى الحديبية؟ قلت: لأن رده إلى المشركين كان شاقا على المسلمين وكان ذلك أعظم ما جرى عليهم من سائر
(٤٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 ... » »»