عمدة القاري - العيني - ج ١٥ - الصفحة ٢٩٤
الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدتها بالسواك، فأمره الله أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لذلك، وهو معنى قوله: وأتممناها بعشر، قوله: (فتم ميقات ربه أربعين ليلة) وميقات ربه: ما وقت له من الوقت وضربه له، والفرق بين الميقات والوقت، وإن كانا من جنس واحد أن الميقات ما قدر لعمل، والوقت قد لا يقدر لعمل. قوله: (أربعين ليلة) نصب على الحال أي: تم بالغا هذا العدد. قوله: (هارون)، عطف بيان لأخيه. قوله: (اخلفني في قومي)، يعني: كن خليفة عني. قوله: (وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين)، يعني: إرفق بهم وأحسن إليهم، وهذا تنبيه وتذكير. وإلا فهارون، عليه السلام، نبي شريف كريم على الله له وجاهة وجلالة. قوله: (لميقاتنا) أي: الوقت الذي وقتناه له وحددناه. قوله: (وكلمه ربه) أي: من غير واسطة أخذه الشوق حتى * (قال: رب أرني أنظر إليك) * فطلب الزيادة لما رأى من لطفه تعالى به. قوله: (لن تراني)، يعني: أعطى جوابه بقوله: لن تراني، يعني: في الدنيا، وقد أشكل حرف: لن، ههنا على كثير من الناس لأنها موضوعة لنفي التأبيد، فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة، وهذا أضعف الأقوال لأنه قد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن المؤمنين يرونه في دار الآخرة، وقيل: إنها لنفي التأييد في الدنيا جمعا بين هذه وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة. قوله: (فإن استقر) أي: الجبل مكانه، وهو أعظم جبل لمدين، قاله الكلبي، يقال له: زبير، والمعنى: اجعل بيني وبينك علما هو أقوى منك، يعني: الجبل، فإن استقر مكانه وسكن ولم يتضعضع فسوف تراني، وإن لم يستقر فلن تطيق (فلما تجلى ربه للجبل) قال ابن عباس هو ظهور نوره وقال الطبري بإسناده إلى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (فلما تجلى ربه للجبل أشار بإصبعه فجعله دكا) وفي إسناده رجل لم يسم، وروى أيضا عن أنس، قال: قرأ رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا) قال وضع الإبهام قريبا من طرف خنصره، قال: فساخ الجبل، وهكذا في رواية أحمد وقال السدي عن عكرمة عن ابن عباس: ما تجلى إلا قدر الخنصر جعله دكا، قال ترابا، وخر موسى صعقا قال: مغشيا عليه، وقال قتادة: وقع ميتا، وقال سفيان الثوري: ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب معه، وعن أبي بكر الهذلي: جعله دكا انعقد فدخل تحت الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة، وفي (تفسير ابن كثير). وجاء في بعض الأخبار أنه ساخ في الأرض فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة، رواه ابن مردويه، وقال ابن أبي حاتم بإسناده عن أبي مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لما تجلى الله للجبل طارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة، فالتي بالمدينة: أحد وورقان ورضوى، ووقع بمكة حراء وثبير وثور، قال ابن كثير: هذا حديث غريب بل منكر، وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عروة بن رويم، قال: كانت الجبال قبل أن يتجلى الله لموسى صماء ملساء فلما تجلى تفطرت الجبال فصارت الشقوق والكهوف. قوله: (فلما أفاق)، يعني: من غشيته، وعلى قول مقاتل: ردت عليه روحه، قال: سبحانك تبت إليك، أي من الإقدام على المسألة قبل الإذن، وقيل: المراد من التوبة الرجوع إلى الله تعالى لا عن ذنب سبق، وقيل: إنما قال ذلك على جهة التسبيح، وهو عادة المؤمنين عند ظهور الآيات الدالة على عظم قدرته. قوله: (وأنا أول المؤمنين) أي: بأنك لا ترى في الدنيا، وقيل: من بني إسرائيل، وقيل: ممن يذم باستعظام سؤاله الرؤية.
يقال دكه زلزله ذكر هذا لقوله تعالى: * (جعله دكا) *، وفسره بقوله: زلزله، والدك مصدر جعل صفة، يقال: ناقة دكاء، أي: ذاهبة السنام مستو ظهرها.
فدكتا فدككن جعل الجبال كالواحدة أشار بقوله: * (فدكتا) * إلى ما في قوله تعالى * (وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة) * (الحاقة: 41). وكان القياس أن يقال: فدككن، بالجمع لأن الجبال جمع والأرض في حكم الجمع، ولكن جعل كل جمع منهما كواحدة، فلذلك قيل: دكتا بالتثنية.
كما قال الله عز وجل * (إن السماوات والأرض كانتا رتقا) * (الأنبياء: 03). ولم يقل كن رتقا ملتصقتين قال بعضهم: ذكر هذا استطرادا، إذ لا تعلق له بقصة موسى، عليه الصلاة والسلام. قلت: ليس كذلك، بل ذكره تنظيرا لما قبله، ولهذا قال: بكاف التشبيه، أراد أن نظير: دكتا، التي هي التثنية والقياس: دككن، كما ذكره من وجهه: * (كانت رتقا) * (الأنبياء: 03)، فإن القياس
(٢٩٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 289 290 291 292 293 294 295 296 297 298 299 ... » »»