عمدة القاري - العيني - ج ١٥ - الصفحة ٢٠١
غالب كتب أصحابنا وقع مثل ما قال، والصحيح: فامقلوه فيه، فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء، كما في رواية ابن ماجة وغيره، وليس فيه: ثم انقلوه، نعم، في رواية البخاري: لم لينزعه، وهو يؤدي معنى: فانقلوه. قوله: (فإن في إحدى جناحيه)، الجناج حقيقة للطائر، وإذا استعمل في غيره يكون بطريق الاستعارة، قال الله تعالى: * (واخفض لهما جناح الذل) * (الإسراء: 42). وفي غالب النسخ: فإن في أحد جناحيه داء والآخر شفاء، بتذكير: أحد، ووجه تأنيثها باعتبار أن جناح الطائر يده، والتأنيث باعتبار اليد. قوله: (والأخرى شفاء)، الثابت في كثير من النسخ، وفي الأخرى، بإعادة حرف الجر، وتركها يدل على جواز العطف على عاملين، وهو رأي الأخفش والكوفيين، فحينئذ تكون: الأخرى، مجرورا عطفا على: في إحدى، ويكون نصب: شفاء، مثل نصب: داء، والعامل في: إحدى، حرف الجر الذي هو لفظ: في، والعامل في: داء، كلمة: إن، فقد شركت الواو في العطف على العاملين اللذين هما: في وان، وسيبويه لا يجوز ذلك، يؤيده رواية إثبات حرف الجر في قوله: وفي الأخرى، وقيل: يروى شفاء، بالرفع، فعلى هذا يخرج الكلام عن العطف على عاملين، ولكنه على هذا يحتاج إلى حذف مضاف تقديره: ذو شفاء، لأن لفظ الآخر أو الأخرى يكون مبتدأ، وشفاء خبره، ولعدم صحة الحمل يقدر المضاف، وقال أبو محمد المالقي في (جامعه): ذباب الناس يتولد من الزبل، فإن أخذ الذباب الكبير وقطعت رؤوسها ويحك بجسدها الشعرة التي في الأجفان حكا شديدا فإنه يبرئه، وإن سحق الذباب بصفرة البيض سحقا ناعما وضمدت بها العين التي فيها اللحم الأحمر من داخل فإنه يسكن في ساعته، وإن مسح لسعة الزنبور بالذباب سكن وجعه. انتهى. قال الخطابي ما ملخصه: قال بعض الجهلة المعاندين: كيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذباب؟ وكيف تعلم الذباب ذلك من نفسها حتى تقدم الداء وتؤخر الدواء؟ وما أداها إلى ذلك؟ ورد عليهم: بأن عامة الحيوان جمعت فيها بين الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة في أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت لولا تأليف الله لها، والذي ألهم النحلة وشبهها من الحيوان إلى بناء البيوت وادخار القوت هو الملهم للذباب ما تراه في الكتاب.
1233 حدثنا الحسن بن الصباح حدثنا إسحاق الأزرق حدثنا عوف عن الحسن وابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال غفر لإمرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركي يلهث قال كاد يقتله العطش فنزعت خفها فأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك. (الحديث 1233 طرفه في: 7643).
لا تتأتى المطابقة هنا إلا بينه وبين الترجمة المتقدمة، وليس له مطابقة بهذه الترجمة أصلا، وقد ذكرنا: أن هذه الترجمة ساقطة عند غير أبي ذر والحسن بن الصباح، بتشديد الباء البزار أبو علي الواسطي، وإسحاق بن يوسف الأزرق الواسطي، وعوف المشهور بالأعرابي، والحسن البصري ومحمد بن سيرين.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الإيمان عن أحمد بن عبد الله المنجوفي، وأخرجه النسائي فيه عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام. وفي الجنائز عن محمد بن بشار، وقال صاحب (التوضيح): هذا الحديث سلف في الشرب من حديث أبي هريرة: أن رجلا فعل ذلك، وكذا ذكره في الطهارة في: باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، فلعلهما قضيتان. قلت: هذا الحديث في المرأة المومسة، والحديثان المذكوران في البابين المذكورين في الرجل، روى كليهما أبو صالح عن أبي هريرة، وكل منهما حديث مستقل بذاته، فلا وجه لقوله: هذا الحديث سلف، ولا لقوله: لعلهما قضيتان، بل هما قضيتان قطعا، فإن نظرنا إلى الظاهر فهي ثلاث قضايا.
قوله: (مومسة)، أي: زانية ويجمع على: مومسات وميامس وموامس، وأصحاب الحديث يقولون: مياميس، ولا يصح إلا على إشباع الكسرة لتصير: ياء، وقد اختلف في أصل هذه اللفظة، فبعضهم يجعله من الهمزة، وبعضهم يجعله من الواو، وقال ابن الأثير: كل منهما تكلف له اشتقاقا فيه بعد، فذكرناها في حرف الميم لظاهر لفظها، ولاختلافهم في أصلها. قلت: قال في باب الميم: مومس، ثم ذكر ما ذكرناه، وقال ابن قرقول: المياميس والمومسات: المجاهرات بالفجور، والواحدة مومسة، وذكره أصحاب العربية في
(٢٠١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 196 197 198 199 200 201 202 203 204 205 206 ... » »»