عمدة القاري - العيني - ج ١٢ - الصفحة ٢٦٧
في مكة، وقد أوضح ذلك مسلم في روايته حيث قال: قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول: عرفها عاما واحدا، وكذلك صرح بذلك أبو داود الطيالسي في (مسنده): يقال في آخر الحديث: قال شعبة: فلقيت سلمة بعد ذلك، فقال: لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا. وقال الكرماني: قوله: (فلقيته)، أي: قال سويد: لقيت أبي بن كعب بعد ذلك بمكة، قلت: تبع في ذلك ابن بطال حيث قال: الذي شك فيه هو أبي بن كعب، والقائل هو سويد بن غفلة، ولكن يرد هذا ما ذكرناه عن مسلم والطيالسي. قوله: (فقال: لا أدري) أي: قال سلمة بن كهيل، وهو الشاك فيه، وعلى قول ابن بطال: الشاك هو أبي بن كعب، والسائل منه هو سويد بن غفلة، كما ذكرناه.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: التعريف بثلاثة أحوال، ولكن الشك فيه يوجب سقوط المشكوك، وهو الثلاثة. وقال ابن بطال: لم يقل أحد من أئمة الفتوى بظاهره بأن اللقطة تعرف ثلاثة أحوال، وقد بسطنا الكلام فيه عن قريب. وفيه: الأمر بحفظ ثلاثة أشياء: وهي الوعاء والعدد والوكاء، وإنما أمر بحفظ هذه الأشياء لوجوه من المصالح: منها: أن العادة جارية بإلقاء الوعاء والوكاء إذا فرغ من النفقة، وأمره بمعرفته وحفظه لذلك، ومنها: أنه إذا أمره بحفظ هذين فحفظ ما فيهما أولى. ومنها: أن يتميز عن ماله فلا يختلط به. ومنها: أن صاحبها إذا جاء بغتة فربما غلب على ظنه صدقه، فيجوز له الدفع إليه. ومنها: أنه إذا حفظ ذلك وعرفه أمكه التعريف لها والإشهاد عليه، وأمره، صلى الله عليه وسلم، بحفظ هذه الأوصاف الثلاثة، هو على قول من يقول بمعرفة الأوصاف: يدفع إليه بغير بينة. وقال ابن القاسم: لا بد من ذكر جميعها، ولم يعتبر أصبغ العدد، وقول ابن القاسم أوضح، فإذا أتى بجميع الأوصاف، هل يحلف مع ذلك أو لا؟ قولان: النفي لابن القاسم وتحليفه لأشهب، ولا تلزمه بينة عند مالك، وأصحابه، وأحمد وداود، وهو قول البخاري، وبوب عليه بالباب المذكور، وبه قال الليث بن سعد أيضا. وقال أبو حنيفة والشافعي، وأصحابهما: لا يجب الدفع إلا بالبينة، وتأولوا الحديث على جواز الدفع بالوصف إذا صدقه على ذلك ولم يقم البينة، واستدل الشافعي على ذلك بقوله في الحديث الآخر: البينة على المدعي، وهذا مدع، وقال الشافعي: ولو وصفها عشرة أنفس لا يجوز أن يقسم بينهم، ونحن نعلم أن كلهم كاذبون إلا واحدا منهم غير معين، فيجوز أن يكون صادقا، ويجوز أن يكون كاذبا، وأنهم عرفوا الوصف من الملتقط، ومن الذي ضاعت منه، وقال شيخنا زين: هذا معنى كلامه، وظاهر الحديث يدل لما قال مالك والليث وأحمد، والله أعلم. ولو أخبر طالب اللقطة بصفاتها المذكورة فصدقه الملتقط ودفعها إليه ثم جاء طالب آخر لها وأقام البينة على أنها ملكه، فقد اتفقوا على أنها تنتزع ممن أخذها أولا بالوصف وتدفع للثاني لأن البينة أقوى من الوصف، فإن كان قد أتلفها ضمنها.
واختلفوا: هل لمقيم البينة أن يضمن الملتقط؟ فقال الشافعي: له تضمينه لأنه دفعه لغير مالكه. وقالت المالكية: لا يضمن لأنه فعل ما أمره به الشارع. وقال ابن القاسم: يقسم بينهما كما يحكم في نفسين ادعا شيئا وأقاما بينة. وقال أصحابنا الحنفية: وإن دفعها بذكر العلامة ثم جاء آخر وأقام البينة بأنه له فإن كانت قائمة أخذها منه، وإن كانت هالكة يضمن أيهما شاء، ويرجع الملتقط على الآخذ إن ضمن، ولا يرجع الأخذ على أحد، وللملتقط أن يأخذ منه كفيلا عند الدفع. وقيل: يخير، وإن دفعها إليه بتصديقه ثم أقام آخر بينة أنها له، فإن كانت قائمة أخذها منه، وإن كانت هالكه فإن كان دفع إليه بغير قضاء، فله أن يضمن إيهما شاء، فإن ضمن القابض فلا يرجع به على أحد، وإن ضمن الملتقط فله أن يرجع به على القابض، وللملتقظ أن يأخذ به كفيلا، وإن كان دفعها إليه بقضاء ضمن القابض، ولا يضمن الملتقط لأنه مقهور، وإن أقام الحاضر بينة أنها له فقضى بالدفع إليه، ثم حضر آخر وأقام بينة أنها له لم يضمن.
وفيه: الاستمتاع باللقطة إذا لم يجيء صاحبها واحتج بظاهره جماعة، وقالوا: يجوز للغني والفقير إذا عرفها حولا أن يستمتع بها، وقد أخذها علي بن أبي طالب، وهو: يجوز له أخذ النفل دون الفرض، وأبي بن كعب وهو من مياسير الصحابة، وقال أبو حنيفة: إن كان غنيا لم يجز له الانتفاع بها، ويجوز إن كان فقيرا، ولا يتصدق بها على غني، ويتصدق بها على فقير أجنبيا كان أو قريبا منه، وكذا له أن يتصدق بها على أبويه وزوجته وولده إذا كانوا فقراء. فإن قلت: ظاهر الحديث حجة عليكم، لأنه، صلى الله عليه وسلم، قال لأبي: فاستمتع بها. قال: فاستمتعت! قلت: هذا حكاية حال فلا تعم، ويجوز أنه صلى الله عليه وسلم عرف فقره أو كانت عليه ديون، ولئن سلمنا أنه كان غنيا، فقال له: استمتع بها، وذلك جائز عندنا من الإمام على سبيل العرض، ويحتمل
(٢٦٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 262 263 264 265 266 267 268 269 270 271 272 ... » »»