عمدة القاري - العيني - ج ١٢ - الصفحة ٢١٣
ولا يرعى ولا يقرب، وفي (الصحاح): حميته حماية أي: دفعت عنه، وهذا شيء حمى على فعل أي: محظور لا يقرب. قلت: دل هذا أن لفظ: حمى، اسم غير مصدر، وهو على وزن فعل بكسر الفاء بمعنى مفعول، أي: محمي محظور، هذا معناه اللغوي، ومعناه الاصطلاحي: ما يحمي الإمام من الموات لمواش يعينها ويمنع سائر الناس من الرعي فيها. وقال ابن الأثير: قيل: كان الشريف في الجاهلية إذا نزل أرضا في حيه استعوى كلبا فحمى مدى عواء الكلب لا يشرك فيه غيره، وهو يشارك القوم في سائر ما يرعون فيه، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأضاف. الحمى إلى الله ورسوله إلا ما يحمى للخيل التي ترصد للجهاد والإبل التي يحمل عليها في سبيل الله، وإبل الزكاة وغيرها، كما حمى عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، النقيع، بالنون: لنعم الصدقة والخيل المعدة في سبيل الله. قيل: فيه نظر من حيث إن الملوك والأشراف كانوا يحمون بما شاؤوا، فلم يحك أحد أنهم كانوا يحمون بالكلب إلا ما نقل عن وائل بن ربيعة التغلبي، فغلبت عليه اسم كليب، لأنه حمى الحمى بعواء كلب كان يقطع يديه ويدعه وسط مكان يريده، فأي موضع بلغ عواؤه لا يقربه أحد وبسببه، كانت حرب البسوس المشهورة. وقال ابن بطال: أصل الحمى المنع، يعني: لا مانع لما لا مالك له من الناس من أرض أو كلأ إلا الله ورسوله، قال: وذكر ابن وهب أن النقيع الذي حماه سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قدره ميل في ثمانية أميال، والنقيع بالنون المفتوحة والقاف المكسورة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة وفي آخره عين مهملة: على عشرين فرسخا من المدينة، وقيل: على عشرين ميلا، ومساحته بريد في بريد، قال ياقوت: وهو غير نقيع الخضمات الذي كان عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، حماه، وعكس ذلك أبو عبيد البكري، وزعم الخطابي أن من الناس من يقوله بالباء الموحدة، وهو تصحيف، والأصل في النقيع أنه: كل موضع يستنقع فيه الماء، وزعم ابن الجوزي أن بعضهم ذهب إلى أنهما واحد، والأول أصح.
0732 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الصعب بن جثامة قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا حمى إلا لله ولرسوله. (الحديث 0732 طرفه في: 3103).
الحديث عين الترجمة فلا مطابقة أقوى من هذا، ورجاله سبعة كلهم قد ذكروا، ويونس بن يزيد الأيلي، والصعب ضد السهل ابن جثامة، بفتح الميم وتشديد الثاء المثلثة: الليثي، مر في جزاء الصيد ورواية الليث عن يونس من الأقران، لأن الليث قد سمع من شيخه ابن شهاب أيضا. وفي هذا الإسناد تابعيان: ابن شهاب وعبيد الله، وصحابيان: عبد الله بن عباس والصعب بن جثامة.
وهذا الحديث من أفراده، ووقع في (الإلمام) للشيخ تقي الذين القشيري: أنه من المتفق عليه، وهو وهم، بل ربما يكون من الناسخ، وأخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن علي بن عبد الله عن سفيان. وأخرجه أبو داود في الخراج عن ابن السرح عن ابن وهب عن يونس به. وأخرجه النسائي في الحمى وفي السير عن أبي كريب عن ابن إدريس عن مالك عن ابن شهاب.
قوله: (لا حمى إلا لله ولرسوله)، أي: لا حمى لأحد يخص نفسه يرعى فيه ماشيته دون سائر الناس، وإنما هو لله ولرسوله ولمن ورد ذلك عنه من الخلفاء بعده إذا احتاج إلى ذلك لمصلحة المسلمين، كما فعل الصديق والفاروق وعثمان لما احتاجوا إلى ذلك، وعاب رجل من العرب عمر، رضي الله تعالى عنه، فقال: بلاد الله حميت لمال الله، وأنكر أيضا على عثمان أنه زاد في الحمى، وليس لأحد أن ينكر ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم قد تقدم إليه ولخلفائه الاقتداء به والاهتداء، وإنما يحمى الإمام ما ليس بملك لأحد مثل بطون الأودية والجبال والموات، وإن كان ينتفع المسلمون بتلك المواضع فمنافعهم في حماية الإمام أكثر. وقال ابن التين: معنى الحديث: لا حمى إلا على ما أذن الله لرسوله أن يحميه، لا ما كان يحميه العرب في الجاهلية. قيل: الأرجح عند الشافعية أن الحمى مختص بالخليفة، ومنهم من ألحق به ولاة الأقاليم، وقال بعضهم: استدل به الطحاوي لمذهبه في اشتراط إذن الإمام في إحياء الموات، وتعقب بالفرق بينهما، فإن الحمى أخص من الإحياء. انتهى. قلت: حصر الحمى لله ولرسوله يدل على أن حكم الأراضي إلى الإمام، والموات من الأراضي، ودعوى أخصية الحمى من الإحياء
(٢١٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 208 209 210 211 212 213 214 215 216 217 218 ... » »»