عمدة القاري - العيني - ج ١٢ - الصفحة ٦٠
ما حرم الانتفاع به كان ثمنه حراما، فلما أباح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الانتفاع بها للاصطياد ونحوه ما نهى عن قتلها نسخ ما كان من النهي عن بيعها وتناول ثمنها. فإن قلت: ما وجه هذا النسخ؟ قلت: وجهه ظاهر، وهو أن الأصل في الأشياء الإباحة، فلما ورد النهي عن اتخاذ الكلاب وورد الأمر بقتلها علمنا أن اتخاذها حرام، وأن بيعها حرام أيضا، لأن ما كان انتفاعه حراما قيمته حرام كالخنزير ونحوه، ثم لما وردت الإباحة بالانتفاع بها للاصطياد ونحوه، وورد النهي عن قتلها، علمنا أن ما كان قبل ذلك من الحكمين المذكورين قدانتسخ بما ورد بعده، ولا شك أن الإباحة بعد التحريم نسخ لذلك التحريم ورفع لحكمه، وسيأتي زيادة بيان في المزارعة وغيرها.
فإن قلت: ما حكم السنور؟ قلت: روى الطحاوي والترمذي من حديث أبي سفيان عن جابر: قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب والسنور، ثم قال: هذا حديث في إسناده اضطراب، ثم روى الترمذي من حديث أبي الزبير عن جابر، قال: نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن أكل الهر وثمنه، ثم قال: هذا حديث غريب. وروى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر، قال: سألت جابرا عن ثمن الكلب والسنور؟ فقال: زجر النبي، صلى الله عليه وسلم، عن ذلك. ورواه النسائي ولفظه: نهى عن الكلب والسنور، إلا كلب صيد. وقال النسائي بعد تخريجه: هذا حديث منكر.
واختلف العلماء في جواز بيع الهر، فذهب قوم إلى جواز بيعه وحل ثمنه، وبه قال الجمهور، وهو قول الحسن البصري ومحمد بن سيرين والحكم وحماد ومالك وسفيان الثوري وأبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال ابن المنذر: وروينا عن ابن عباس أنه رخص في بيعه. قال وكرهت طائفة بيعه، روينا ذلك عن أبي هريرة وطاووس ومجاهد، وبه قال جابر بن زيد، وأجاب القائلون بجواز بيعه عن الحديث بأجوبه: أحدها: أن الحديث ضعيف وهو مردود. والثاني: حمل الحديث على الهر إذا توحش فلم يقدر على تسليمه، حكاه البيهقي في (السنن) عن بعض أهل العلم. والثالث: ما حكاه البييهقي عن بعضهم أنه: كان ذلك في ابتداء الإسلام حين كان محكوما بنجاسته، ثم لما حكم بطهارة سؤره حل ثمنه. والرابع: أن النهي محمول على التنزيه لا على التحريم، ولفظ مسلم: زجر، يشعر بتخفيف النهي، فليس على التحريم بل على التنزيه، وعكس ابن حزم هذا، فقال: الزجر أشد النهي وفي كل منهما نظر لا يخفى. والخامس: ما حكاه ابن حزم عن بعضهم أنه يعارضه ما روى أبو هريرة وابن عباس عن النبيصلى الله عليه وسلم: أنه أباح ثمن الهر، ثم رده بكلام طويل. والسادس: ما حكاه أيضا ابن حزم عن بعضهم أنه: لما صح الإجماع على وجوب الهر والكلب المباح اتخاذه في الميراث والوصية والملك جاز بيعيهما، ثم رده أيضا. وقال النووي: والجواب المعتمد أنه محمول على ما لا نفع فيه، أو: على أنه نهي تنزيه حتى يعتاد الناس هبته وإعارته.
والحكم الثاني: مهر البغي: وهو ما يعطى على النكاح المحرم فإذا كان محرما ولم يستبح بعقد صارت المعاوضة عليه لا تحل، لأنه ثمن عن محرم، وقد حرم الله الزنا، وهذا مجمع على تحريمه لا خلاف فيه بن المسلمين.
والحكم الثالث: حلوان الكاهن: وهو حرام لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن إتيان الكهان، مع أن ما يأتون به باطل وحله كذب، قال تعالى: * (تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون) * (الشعراء: 222). وأخذ العوض على مثل هذا، ولو لم يكن منهيا عنه من أكل المال بالباطل، ولأن الكاهن يقول ما لا ينتفع به، ويعان بما يعطاه على ما لا يحل.
8322 حدثنا حجاج بن منهال قال حدثنا شعبة قال أخبرني عون بن أبي جحيفة قال رأيت أبي اشترى حجاما فأمر بمحاجمه فكسرت فسألته عن ذلك فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب الأمة ولعن الواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله ولعن المصور..
مطابقته للترجمة في قوله: ثمن الكلب، والحديث قد مضى في: باب موكل الربا، فإنه أخرجه هناك: عن أبي الوليد عن شعبة، وهنا: عن حجاج بن منهال السلمي مولاهم الأنماطي البصري عن شعبة... إلى آخره، نحوه، غير أن فيه: عن ثمن الكلب وثمن الدم، وفيه أيضا: اشترى عبدا حجاما، وقد مر الكلام فيه مستوفى.
بسم الله الرحيم
(٦٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 ... » »»