عمدة القاري - العيني - ج ١١ - الصفحة ١٤١
سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال: فأوف بنذرك)، فهذا يدل على جواز الاعتكاف بغير صوم، لأن الليل لا يصلح ظرفا للصوم. قلت: عند مسلم يوما بدل ليلة، وأيضا روى النسائي (أن عمر، رضي الله تعالى عنه، قال: يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف في الجاهلية، فأمره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يعتكف ويصوم). وأيضا هذا محمول على أنه كان نذر يوما وليلة، بدليل أن في لفظ مسلم عن ابن عمر: أنه جعل على نفسه يوما يعتكفه، فقال، صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك. وقال ابن بطال: أصل الحديث: قال عمر: إني نذرت أن أعتكف يوما وليلة في الجاهلية، فنقل بعض الرواة ذكر الليلة وحدها، ويجوز للراوي أن ينقل بعض ما سمع. وفي (الذخيرة): أن الصوم كان في أول الإسلام بالليل، ولعل ذلك كان قبل نسخه. وقال النووي: قد تقرر أن النذر الجاري في الكفر لا ينعقد على الصحيح، فلم يكن ذلك شيئا واجبا عليه، وقال المهلب: كل ما كان في الجاهلية من الأيمان والطلاق وجميع العقود يهدمها الإسلام ويسقط حرمتها، فيكون الأمر بذلك أمر استحباب كيلا يكون خلفا في الوعد. وقال ابن بطال: محمول عند الفقهاء على الحض والندب لأن الإسلام يجب ما قبله.
((أبواب الإعتكاف)) أي: هذه أبواب الاعتكاف، هكذا هو في رواية المستملي، وليس لغيره ذلك إلا لفظ: كتاب في الاعتكاف، في رواية النسفي، والمراد بالأبواب: الأنواع، لأن في كل باب نوعا من أحكام الاعتكاف، وقد ذكرنا فيما مضى أن الكتاب يجمع الأبواب، والأبواب تجمع الفصول.
1 ((باب الإعتكاف في العشر الأواخر)) أي: هذا باب في بيان الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، وقد ورد الاعتكاف بلفظ المجاورة. ففي الصحيح من حديث أبي سعيد: (كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يجاور في العشر الأوسط من رمضان...) الحديث. وفي (الصحيح): في قصة بدء الوحي أنه كان يجاور بحراء.
وقد اختلفوا: هل المجاورة الاعتكاف أو غيره؟ فقال عمرو بن دينار: الجوار والاعتكاف واحد، وسئل عطاء بن أبي رباح: أرأيت الجوار والاعتكاف؟ أمختلفان هما أو شيء واحد؟ قال: بل هما مختلفان، كانت بيوت النبي، صلى الله عليه وسلم، في المسجد. فلما اعتكف في شهر رمضان خرج من بيوته إلى بطن المسجد فاعتكف فيه، قلت له: فإن قال إنسان: علي اعتكاف أيام، ففي جوفه لا بد؟ قال: نعم، وإن قال: علي جوار أيام فبابه أو في جوفه، إن شاء. هكذا رواه عبد الرزاق في (المصنف): عنهما، قال شيخنا: وقول عمرو بن دينار هو الموافق للأحاديث، ولما ذكر صاحب (الإكمال) حد الاعتكاف قال: ويسمى أيضا جوارا.
والاعتكاف في المساجد كلها لقوله تعالى: * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون) * (البقرة: 781).
والاعتكاف، بالجر: عطفا على لفظ: الاعتكاف الأول، وقيده بالمساجد لأنه لا يصح في غير المساجد، وجمع المساجد وأكدها بلفظ كلها إشارة إلى أن الاعتكاف لا يختص بمسجد دون مسجد، وفيه خلاف. فقال حذيفة: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة: مسجد مكة والمدينة والأقصى. وقال سعيد بن المسيب: لا اعتكاف إلا في مسجد نبي، وفي (الصوم) لابن أبي عاصم بإسناده إلى حذيفة: لا اعتكاف إلا في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وروى الحارث عن علي، رضي الله تعالى عنه: لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام ومسجد المدينة.
وذهب هؤلاء إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد، وهو ما بناه نبي، لأن الآية نزلت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو معتكف في مسجده، فكان القصد والإشارة إلى نوع تلك المساجد مما بناه نبي. وذهبت طائفة إلى أنه لا يصح الاعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الجمعة، روي ذلك عن علي وابن مسعود وعروة وعطاء والحسن والزهري، وهو قول مالك في (المدونة): قال: أما من تلزمه الجمعة فلا يعتكف إلا في الجامع. وقالت: طائفة:
(١٤١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 136 137 138 139 140 141 142 143 144 145 146 ... » »»