عمدة القاري - العيني - ج ٩ - الصفحة ٥٣
الظاهر أنه من غلبة السوداء وشدتها كلما ينزل الطعام في معدته يحترق وإلا فلا يتصور أن يسع في المعدة أكثر ما يسع فيه، وقد ذكر أهل الأخبار أن رجلا من أهل البادية أكل جملا وامرأته أكلت فصيلا ثم أراد أن يجامعها فقالت: بيني وبينك جمل وفصيل كيف يكون ذاك؟ قوله: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، قد مر الكلام فيه مستقصى في: باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى. قوله: (لا أرزأ)، بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الزاي وبالهمزة: معناه لا أنقص ماله بالطلب، وفي (النهاية): ما رزأته أي: ما نقصته، وفي رواية لإسحاق: (قلت: فوالله لا تكون يدي بعدك تحت يد من أيدي العرب. قلت: هذا معنى قوله: (بعدك)، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون المعنى: غيرك، قال الكرماني: فإن قلت: لم امتنع من الأخذ مطلقا وهو مبارك إذا كان بسعة الصدر مع عدم الإشراف؟ قلت: مبالغة في الاحتراز إذ مقتضى الجبلة الإشراف والحرص والنفس سراقة والعرق دساس، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. قوله: (فأبى أن يقبل منه)، أي: فامتنع حكيم أن يقبل عطاء من أبي بكر في الأول، ومن عمر في الثاني، وجه امتناعه من أخذ العطاء مع أنه حقه لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئا فيعتاد الأخذ فتتجاوز به نفسه إلى ما لا يريده، ففطمها عن ذلك وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، ولأنه خاف أن يفعل خلاف ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأنه قال: لا أرزأ أحدا بعدك). حتى روى في رواية: (ولا منك يا رسول الله؟ قال: ولا مني). قوله: (فقال عمر، رضي الله تعالى عنه: إني أشهدكم) إنما أشهد عمر، رضي الله تعالى عنه، على حكيم لأنه خشي سوء التأويل، فأراد تبرئة ساحته بالإشهاد عليه، وأن أحدا لا يستحق شيئا من بيت المال بعد أن يعطيه الإمام إياه. وفي (التوضيح): وأما قبل ذلك فليس بمستحق له، ولو كان مستحقا له لقضى عمر على حكيم بأخذه، ذلك يدل عليه قول الله تعالى، حين ذكر قسم الصدقات، وفي أي الأقسام يقسم أيضا: * (كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه) * (الحشر: 7). الآية. فإنما هو لمن أوتيه لا لغيره. وإنما قال العلماء في إثبات الحقوق في بيت المال مشددا على غير المرضى من السلاطين ليغلقوا باب الامتداد إلى أموال المسلمين، والسبب إليها بالباطل، ويدل على ذلك أن من سرق بيت المال أنه يقطع، وزنى بجارية من الفىء أنه يحد، ولو استحق في بيت المال أو في الفيء شيئا على الحقيقة قبل إعطاء السلطان له لكانت شبهة تدرأ الحد عنه. قلت: جمهور الأمة على أن للمسلمين حقا في بيت المال والفيء، ولكن الإمام بقسمه على اجتهاده، فعلى هذا لا يجب القطع ولا الحد للشبهة وسيجئ تحقيقه في: باب الاجتهاد، إن شاء الله تعالى. قوله: (حتى توفي)، زاد إسحاق بن راهويه في (مسنده) من طريق معمر بن عبد الله بن عروة مرسلا: أنه ما أخذ من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا معاوية ديوانا ولا غيره حتى مات لعشر سنين من إمارة معاوية، وزاد ابن إسحاق أيضا في (مسنده) من طريق معمر عن الزهري: فمات حيت مات وأنه لمن أكثر قريش مالا.
ذكر ما يستفاد منه فيه: ما قال المهلب: إن سؤال السلطان الأكبر ليس بعار. وفيه: أن السائل إذا ألحف لا بأس برده وموعظته وأمره بالتعفف وترك الحرص. وفيه: أن الإنسان لا يسأل إلا عند الحاجة والضرورة لأنه إذا كانت يده السفلى مع إباحة المسألة فهو أحرى أن يمتنع من ذلك عند غير الحاجة. وفيه: أن من كان له حق عند أحد فإنه يجب عليه أخذه إذا أتى، فإن كان مما لا يستحقه إلا ببسط اليد فلا يجبر على أخذه، وفيه: ما قال ابن أبي جمرة: قد يقع الزهد مع الأخذ، فإن سخاوة النفس هو زهدها. تقول: سخت بكذا أي: جادت، وسخت عن كذا أي: لم تلتفت إليه. وفيه: أن الأخذ مع سخاوة النفس يحصل أجر الزهد والبركة في الرزق، فظهر أن الزهد يحصل خيري الدنيا والآخرة. وفيه: ضرب المثل بما لا يعقله السامع من الأمثلة، لأن الغالب من الناس لا يعرف البركة إلا في الشيء الكثير، فبين بالمثال المذكور أن البركة هي خلق من خلق الله تعالى، وضرب لهم المثل بما يعهدون بالأكل إنما يؤكل ليشبع فإذا أكل ولم يشبع كان عناء في حقه بغير فائدة، وكذلك المال ليست الفائدة في عينه وإنما هي لما يتحصل به من المنافع، فإذا كثر المال عند المرء بغير تحصيل منفعة كان وجوده كالعدم. وفيه: أنه ينبغي للإمام أن لا يبين للطالب ما في مسألته من المفسدة إلا بعد قضاء حاجته لتقع موعظته له الموقع لئلا يتخيل أن ذلك سبب لمنعه حاجته. وفيه: جواز تكرر السؤال ثلاثا. وجواز المنع في الرابعة. وفيه: أن رد السائل بعد ثلاث ليس بمكروه. وأن الإجمال في الطلب مقرون بالبركة.
(٥٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 ... » »»