عمدة القاري - العيني - ج ٥ - الصفحة ٥١
صريح العبارة، فإن الحديث مثال وليس المراد عملا خاصا بهذا الوقت، بل المراد سائر أعمال الأمة من سائر الصلوات، وغيرها من سائر العبادات في سائر مدة بقاء الأمة إلى قيام الساعة، وكذا قال أبو المعالي الجويني: بأن الأحكام لا تتعلق بالأحاديث التي تأتي لضرب الأمثال فإنه موضع تجوز. وقال المهلب: إنما أدخل البخاري هذا الحديث، والحديث الذي بعده، في هذا الباب لقوله: (ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين)، ليدل على أنه قد يستحق بعمل البعض أجر الكل، مثل الذي أعطي من العصر إلى الليل أجر النهار كله، فمثله كالذي أعطي على ركعة أدرك وقتها أجر الصلاة كلها في آخر الوقت. وقال صاحب (التلويح): فيه بعد، لأنه لو قال: إن (هذه الأمة أعطيت ثلاثة قراريط لكان أشبه، ولكنها ما أعطيت إلا بعض أجر جميع النهار، نعم عملت هذه الأمة قليلا وأخذت كثيرا، ثم هو أيضا منفك عن محل الاستدلال، لأن عمل هذه الأمة آخر النهار كان أفضل من عمل المتقدمين قبلها، ولا خلاف أن صلاة العصر متقدمة أفضل من صلاتها متأخرة، ثم هذا من الخصائص المستثناة عن القياس، فكيف يقاس عليه؟ ألا ترى أن صيام آخر النهار لا يقوم مقام جملته، وكذا سائر العبادات؟ انتهى. قلت: كل ما ذكروا ههنا لا يخلو عن تعسف، وقوله: لا خلاف، غير موجه، لأن الخلاف موجود في تقديم صلاة العصر وتأخيرها، وقياسه على الصوم كذلك، لأن وقت الصوم لا يتجزى، بخلاف الصلاة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: عبد العزيز الأويسي، بضم الهمزة، مر في كتاب الحرص على الحديث، ونسبته إلى أويس أحد أجداده. الثاني: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي المدني. الثالث: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الرابع: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. الخامس: أبوه عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع، وبصيغة الإفراد من الماضي في موضع. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: الإخبار بصيغة الافراد من الماضي. وفيه: القول. وفيه: السماع. وفيه: أن رواته كلهم مدنيون. وفيه: أن شيخ البخاري من أفراده. وفيه: رواية التابعة عن التابعي. وهما: ابن شهاب وسالم.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في باب الإجارة إلى نصف النهار عن سليمان بن حرب عن حماد عن أيوب عن نافع به، وأخرجه أيضا في باب فضل القرآن عن مسدد عن يحيى عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، وأخرجه أيضا في التوحيد عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن سالم بن عبد الله، وأخرجه أيضا في باب ما ذكر عن بني إسرائيل عن قتيبة عن ليث عن نافع به. وأخرجه مسلم والترمذي أيضا.
ذكر معناه: قوله: (إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم)، ظاهره ليس بمراد، لأن ظاهره أن بقاء هذه الأمة وقع في زمان الأمم السالفة، وليس كذلك، وإنما معناه: أن نسبتكم إليهم كنسبة وقت العصر إلى تمام النهار، وفي رواية الترمذي: (إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس). قوله: (إلى غروب الشمس)، كان القياس أن يقال: وغروب الشمس، بالواو، لأن: بين، يقتضي دخوله على متعدد، ولكن المراد من الصلاة وقت الصلاة، وله أجزاء، فكأنه قال: بين أجزاء وقت صلاة العصر. قوله: (أوتي أهل التوراة)، أوتي: على صيغة المجهول، أي: أعطي، فالتوراة الأولى مجرورة بالإضافة، والثانية منصوبة على أنه مفعول ثان، قيل: اشتقاق التوراة من الوري، ووزنها: تفعلة، وقال الزمخشري: التوراة والإنجيل إسمان أعجميان، وتكلف اشتقاقهما من الوري والنجل، ووزنهما: تفعلة وإفعيل، إنما يصح بعد كونهما عربيين. وقرأ الحسن: الإنجيل، بفتح الهمزة، وهو دليل على العجمة، لأن: أفعيل، بفتح الهمزة عديم في أوزان العرب. قوله: (عجزوا)، قال الداودي: قاله أيضا في النصارى، فإن كان المراد من مات منهم مسلما فلا يقال: عجزوا، لأنه عمل ما أمر به، وإن كان قاله فيمن آمن ثم كفر فكيف يعطى القيراط من حبط عمله بكفر؟ وأجيب: بأن المراد: من مات منهم مسلما قبل التغيير والتبديل، وعبر بالعجز لكونهم لم يستوفوا عمل النهار كله، وإن كانوا قد استوفوا ما قدر لهم، فقوله: عجزوا، أي: عن إحراز الأجر الثاني دون الأول، لكن من أدرك منهم النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به أعطي الأجر مرتين. قوله: (قيراطا) هو نصف دانق، والمراد منه: النصيب والحصة، وقد استوفينا الكلام فيه في باب اتباع الجنائز من الإيمان، وإنما كرر لفظ القيراط ليدل على تقسيم القراريط على جميعهم، كما هو عادة كلامهم، حيث أرادوا تقسيم الشيء
(٥١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 46 47 48 49 50 51 52 53 53 53 53 ... » »»