عمدة القاري - العيني - ج ٤ - الصفحة ٢٩١
الأولى أو الدفعة الأولى. قوله: (فنال من أبي سعيد) بالنون أي: أصاب من عرضة بالشتم، وهو من النيل، وهو الإصابة. قوله: (ثم دخل على مروان)، وهو مروان بن الحكم، بفتح الكاف: ر الأموي أبو عبد الملك، يقال: إنه رأى النبي، قاله الواقدي ولم يحفظ عنه شيئا، توفي النبي، وهو ابن ثمان سنين، مات بدمشق لثلاث خلون من رمضان سنة خمس وستين وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقد تقدم ذكره في باب البزاق والمخاط. قوله: (فقال: مالك؟) أي فقال مروان، فكلمة: ما مبتدأ و: لك خبره. (و: لابن أخيك) عطف عليه بإعادة الخافض، وأطلق الأخوة باعتبار أن المؤمنين أخوة، وفيه تأييد لقول من قال إن المار بين يدي أبي سعيد الذي دفعه غير الوليد، لأن أباه عقبة قتل كافرا. فإن قلت: لم لم يقل: ولأخيك، بحذف الأبن. قلت: نظرا إلى أنه كان شابا أصغر منه.
قوله: (فليدفعه)، وفي رواية مسلم: (فليدفع في نحره). قال القرطبي: أي بالإشارة، ولطيف المنع. قوله: (فليقاتله)، بكسر اللام الجازمة وبسكونها. قوله: (فإنما هو شيطان)، هذا من باب التشبيه حذف منه أداة التشبيه للمبالغة أي: إنما هو كشيطان، أو يراد به شيطان الإنس، وإطلاق الشيطان على المارد من الإنس سائغ شائع، وقد جاء في القرآن قوله تعالى: * (شياطين الإنس والجن) * (الأنعام: 211) وقال الخطابي: معناه أن الشيطان يحمله على ذلك ويحركه إليه، وقد يكون أراد بالشيطان المار بين يديه نفسه، وذلك أن الشيطان هو المارد الخبيث من الجن والإنس. وقال القرطبي: ويحتمل أن يكون معناه: الحامل له على ذلك الشيطان، ويؤيده حديث ابن عمر عند مسلم: (لا يدع أحدا يمر بين يديه فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين). وعند أبن ماجة: (قال: القرين)، وقال المنكدري: فإنه معه العزى وقيل: معناه: إنما هو فعل الشيطان لشغل قلب المصلي، كما يخطر الشيطان بين المرء ونفسه.
ذكر ما يستنبط منه من الأحكام وهو على وجوه. الأول: فيه اتخاذ السترة للمصلي، وزعم ابن العربي أن الناس اختلفوا في وجوب وضع السترة بين يدي المصلي على ثلاثة أقوال. الأول: أنه واجب، فإن لم يجد وضع خطا، وبه قال أحمد، كأنه اعتمد حديث ابن عمر الذي صححه الحاكم: (لا تصلي إلا إلى سترة ولا تدع أحدا يمر بين يديك). وعن أبي نعيم في (كتاب الصلاة): حدثنا سليمان، أظنه عن حميد بن هلال، قال عمر ابن الخطاب: لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته ما صلى إلا إلى شيء يستره من الناس، وعند ابن أبي شيبة، عن ابن مسعود: (إنه ليقطع نصف صلاة المرء المرور بين يديه). الثاني: أنها مستحبة، ذهب إليه أبو حنيفة ومالك والشافعي. الثالث: جواز تركها، وروي ذلك عن مالك. قلت: قال أصحابنا: الأصل في السترة أنها مستحبة. وقال إبراهيم النخعي: كانوا يستحبون إذا صلوا في الفضاء أن يكون بين أيديهم ما يسترهم. وقال عطاء، لا بأس بترك السترة، وصلى القاسم وسالم في الصحراء إلى غير سترة، ذكر ذلك كله ابن أبي شيبة في (مصنفه).
واعلم أن الكلام في هذا على عشرة أنواع: الأول: أن السترة واجبة أو لا؟ وقد مر الآن. الثاني: مقدار موضع يكره المرور فيه، فقيل: موضع سجوده، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي وشيخ الإسلام قاضيخان، وقيل: مقدار صفين أو ثلاثة، وقيل: بثلاثة أذرع، وقيل: بخمسة أذرع. وقيل: بأربعين ذراعا، وقدر الشافعي وأحمد بثلاثة أذرع، ولم يحد مالك في ذلك حدا إلا أن ذلك بقدر ما يركع فيه ويسجد ويتمكن من دفع من مر بين يديه. والثالث: أنه يستحب لمن صلى في الصحراء أن يتخذ أمامه سترة، وروى أبو داود من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن له عصا، فليخط خطا ولا يضره ما مر أمامه). وخرجه ابن حبان في (صحيحه) وذكر عبد الحق أن ابن المديني وأحمد بن حنبل صححاه، وقال عياض: هذا الحديث ضعيف وإن كان قد أخذ به أحمد. وقال سفيان بن عيينة: لم نجد شيئا نشد به هذا الحديث. وكان إسماعيل بن أمية إذا حدث بهذا الحديث يقول: عندكم شيء تشدون به، وأشار الشافعي إلى ضعفه. وقال النووي: فيه ضعف وأضطراب. وقال البيهقي: ولا بأس به في مثل هذا الجكم.
الرابع: مقدار السترة، قد ورد: قدر ذراع، وقد ذكرنا الكلام فيه مستوفى فيما مضى عن قريب. والخامس: ينبغي أن يكون في غلظ الإصبع لأن ما دونه لا يبدو للناظر من بعيد. والسادس: يقرب من السترة، وقد مر الكلام فيه مستوفى في باب سترة الإمام سترة لمن خلفه. والسابع: أن يجعل السترة على حاجبه الأيمن، أو على الأيسر، وأخرج أبو داود من حديث المقداد بن الأسود، قال: (ما رأيت سول الله يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمدا)، يعني لم يقصده قصدا بالمواجهة،
(٢٩١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 286 287 288 289 290 291 292 293 294 295 296 ... » »»