عمدة القاري - العيني - ج ٤ - الصفحة ٢٤٥
أجزاء قلبه بذلك فلم يتسع قلبه لخليل آخر، فعلى هذا لا يكون الخليل، إلا واحدا، ومن لم ينته إلى ذلك ممن تعلق القلب به فهو حبيب، ولذلك أثبت لأبي بكر وعائشة أنهما أحب الناس إليه، ونفى عنهما الخلة التي هي فوق المحبة، وقد اختلف أرباب القلوب في ذلك، فذهب الجمهور إلى أن الخلة أعلى تمسكا بهذا الحديث، وذهب ابن فورك: إلى أن المحبة أعلى لأنها صفة نبينا محمد، وهو أفضل من الخليل. وقيل: هما سواء فلا يكون الخليل إلا حبيبا، ولا الحبيب إلا خليلا، وزعم الفراء أن معناه. فلو كنت أخص أحدا بشيء من العلم دون الناس لخصصت به أبا بكر، لأن الخليل من تفرد بخلة من الفضل لا يشاركه له فيها أحد، وقيل: معنى الحديث: لو كنت منقطعا إلى غير ا لانقطعت إلى أبي بكر، لكن هذا ممتنع لامتناع ذلك. فإن قلت: قال بعض الصحابة: سمعت خليلي. قلت: لا بأس في الانقطاع إلى النبي، لأن الانقطاع إليه انقطاع إلى ا تعالى، وفي حكم ذلك.
قوله: (ولكن أخوة الإسلام) كذا هو بالألف في رواية الأكثرين، وفي رواية الأصلي: (ولكن خوة الإسلام) بحذف الألف. قال الكرماني: وتوجيهه أن يقال: نقلت حركة الهمزة إلى نون: لكن، وحذفت الهمزة، فعرض بعد ذلك استثقال ضمة من كسرة وضمة فسكن النون تخفيفا، فصار: ولكن خوة، وسكون النون بعد هذا العمل غير سكونه الأصيلي، ثم نقل عن ابن مالك أن فيه ثلاثة أوجه: سكون النون، وثبوت الهمزة بعدها مضمومة، وضم النون وحذف الهمزة، وسكونه وحذف الهمزة. فالأول أصل، والثاني فرع، والثالث فرع فرع. انتهى. قلت: كل هذا تكلف خارج عن القاعدة، ولكن الوجه أن يقال: إن: لكن، على حالها ساكنة النون، وحذفت الهمزة من أخوة، اعتباطا، ولهذا قال ابن التين: رويناه بغير همزة، ولا أصل لهذا، وكأن الهمزة سقطت هنا، وهي ثابتة في باقي المواضع: ثم إن قوله: إخوة الإسلام، كلام إضافي مبتدأ وخبره محذوف تقديره: ولكن أخوة الإسلام أفضل، ونحو ذلك، ويؤيده أن في حديث ابن عباس الذي بعده وقع هكذا. قوله: (ومودته) أي: مودة الإسلام، والفرق بين الخلة والمودة باعتبار المتعلق مع أنهما بمعنى واحد، وهو أنه أثبت المودة لأنها بحسب الإسلام والدين، ونفى الخلة للمعنى الذي ذكرناه ، والدليل على أنهما بمعنى واحد هو قوله في الحديث الذي بعده. ولكن خلة الإسلام، بدل لفظ المودة. وقد قيل: إن الخلة أخص وأعلى مرتبة من المودة فنفى الخاص وأثبت العام. فإن قيل: المراد من السياق أفضلية أبي بكر، وكل الصحابة داخلون تحت أخوة الإسلام، فمن أين لزم أفضليته؟ وأجيب: بأنها تعلم مما قبله ومما بعده. قوله: (لا يبقين)، بالنون المشددة: للتوكيد. وقال الكرماني: بلفظ مجهول، ويروى بلفظ: المعروف أيضا. قلت: في صيغة المجهول يكون لفظ: باب، مرفوعا على أنه مفعول ناب عن الفاعل، والتقدير: لا يبقى أحد في المسجد بابا إلا باب أبي بكر، وفي صيغة المعلوم يكون: باب، مرفوعا على أنه فاعل، ولا يقال: كيف نهى الباب عن البقاء وهو غير مكلف، لأنا نقول: إنه كناية لأن عدم البقاء لازم للنهي عن الإبقاء فكأنه قال: لا يبقيه أحد حتى لا يبقى؟ وذلك كما يقال: لا أرينك ههنا أي لا تقعد عندي حتى لا أراك؟ قوله: (إلا سد) الاستنثاء مفرغ تقديره: لا يبقين باب بوجه من الوجوه إلا بوجه السد إلا باب أبي بكر، أو يكون التقدير إلا بابا سد، حتى لا يقال: الفعل وقع مستثنى ومستثنى منه. فافهم.
ذكر ما يستفاد منه من الفوائد الأولى: ما قاله الخطابي: وهو أن أمره بسد الأبواب غير الباب الشارع إلى المسجد إلا باب أبي بكر، يدل على اختصاص شديد لأبي بكر، وإكرام له، لأنهما كانا لا يفترقان. الثانية: فيه دلالة على أنه قد أفرده في ذلك بأمر لا يشارك فيه، فأولى ما يصرف إليه التأويل فيه أمر الخلافة، وقد أكثر الدلالة عليها بأمره إياه بالإمامة في الصلاة التي بنى لها المسجد، قال الخطابي: ولا أعلم أن إثبات القياس أقوى من إجماع الصحابة على استخلاف أبي بكر، مستدلين في ذلك باستخلافه إياه في أعظم أمور الدين، وهو الصلاة، فقاسوا عليها سائر الأمور، ولأنه كان يخرج من باب بيته وهو في المسجد للصلاة، فلما غلق الأبواب إلا باب أبي بكر دل على أنه يخرج منه للصلاة، فكأنه أمر بذلك على أن من بعده يفعل ذلك هكذا، فإن قلت: روي عن ابن عباس أنه قال: (سدوا الأبواب إلا باب علي) قلت: قال الترمذي: هو غريب، وقال البخاري: حديث: إلا باب أبي بكر أصح. وقال الحاكم: تفرد به مسكين بن بكير الحراني عن شعبة، وقال ابن عساكر: وهو وهم، وقال صاحب (التوضيح): وتابعه
(٢٤٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 240 241 242 243 244 245 246 247 248 249 250 ... » »»