عمدة القاري - العيني - ج ٣ - الصفحة ٤١
الكلب ثلاثا فعلا وقولا مرفوعا وموقوفا من طريقين: الأول: أخرجه الدارقطني بإسناد صحيح من حديث عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة قال: (إذا ولغ الكلب في الإناء فأهرقه ثم اغسله ثلاث مرات)، قال الشيخ تقي الدين في الإمام: هذا إسناد صحيح. الطريق الثاني: أخرجه ابن عدي في (الكامل) عن الحسين بن علي الكرابيسي، قال: حدثنا إسحاق الأزرق، حدثنا عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله ثلاث مرات)، ثم أخرجه عن عمر بن شبة أيضا: حدثنا إسحاق الأزرق به موقوفا، ولم يرفعه غير الكرابيسي. قلت: قال البيهقي: تفرد به عبد الملك من أصحاب عطاء، ثم عطاء من أصحاب أبي هريرة والحفاظ الثقات من أصحاب عطاء وأصحاب أبي هريرة يروونه: سبع مرات، وفي ذلك دلالة على خطأ رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة في الثلاث، وعبد الملك لا يقبل منه ما يخالف الثقات، ولمخالفته أهل الحفظ والثقة في بعض رواياته تركه شعبة بن الحجاج ولم يحتج به البخاري في (صحيحه): قلت: عبد الملك أخرج له مسلم في صحيحه، وقال أحمد والثوري: هو من الحفاظ، وعن الثوري: هو ثقة فقيه متقن، وقال أحمد بن عبد الله: ثقة ثبت في الحديث، ويقال: كان الثوري يسميه الميزان. وأما الكرابيسي فقد قال: ابن عدي قال لنا: أحمد بن الحسن الكرابيسي يسأل منه والكرابيسي له كتب مصنفة ذكر فيها اختلاف الناس في المسائل وذكر فيها أخبارا كثيرة، وكان حافظا لها، ولم أجد له حديثا منكرا، والذي حمل عليه أحمد بن حنبل فإنما هو من أجل اللفظ بالقرآن. فأما في الحديث فلم أر به بأسا. واما الطحاوي فقال، بعد أن روى الموقوف عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة: فثبت بذلك نسخ السبع لأن أبا هريرة هو راوي السبع، والراوي إذا عمل بخلاف روايته أو أفتى بخلافها لا يبقى حجة، لأن الصحابي لا يحل له أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، ويفتي أو يعمل بخلافة إذ تسقط به عدالته، ولا تقبل روايته، وإنا نحسن الظن بأبي هريرة، فدل على نسخ ما رواه. وقد عارض هذا القائل بأن الحنفية خالفوا ظاهر هذا الحديث بقوله: يحتمل أن يكون أفتى بذلك لاعتقاد ندبية السبع لا وجوبها، أو كان نسي ما رواه، ومع الاحتمال لا يثبت النسخ، ورد بأن هذا إساءة الظن بابي هريرة، والاحتمال الناشئ من غير دليل لا يعتد به، وادعاء الطحاوي النسخ مبرهن بما رواه بإسناده عن ابن سيرين أنه كان إذا حدث عن أبي هريرة، فقيل له: عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كل حديث أبي هريرة عن النبي، عليه الصلاة والسلام، ثم قال الطحاوي: ولو وجب العمل برواية السبع ولا يجعل منسوخا لكان ما روي عن عبد الله بن مغفل في ذلك من النبي، عليه الصلاة والسلام، أولى مما رواه أبو هريرة، لأنه زاد عليه: (وعفروه الثامنة بالتراب)، والزائد أولى من الناقص، وكان ينبغي لهذا المخالف أن يقول لا يطهر إلا بأن يغسل ثمان مرات الثامنة بالتراب، ليأخذ بالحديثين جميعا. فإن ترك حديث ابن مغفل فقد لزمه ما لزمه خصمه في ترك السبع، ومع هذا لم يأخذ بالتعفير الثابت في الصحيح مطلقا، قيل: إنه منسوخ.
فإن عارض هذا القائل بما قاله البيهقي بأن أبا هريرة أحفظ من روى في دهره، فروايته أولى. أجيب: بالمنع، بل رواية ابن المغفل أولى لأنه أحد العشرة الذين بعثهم عمر بن الخطاب، قال الحسن البصري: إلينا، يفقهون الناس، وهو من أصحاب الشجرة وهو أفقه من أبي هريرة، والأخذ بروايته أحوط، ولهذا ذهب إليه الحسن البصري، وحديثه هذا أخرجه ابن منده من طريق شعبة، وقال: اسناده مجمع على صحته، ورواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وروي عن أبي هريرة: (إذا ولغ السنور في الإناء يغسل سبع مرات)، ولم يعملوا به، فكل جواب لهم عن ذلك فهو جوابنا عما زاد على الثلاث، فإن عارض هذا القائل بأنه ثبت أن أبا هريرة أفتى بالغسل سبعا، ورواية من روى عنه موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها، من حيث الإسناد ومن حيث النظر. اما النظر فظاهر، واما الإسناد فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد عن ابن سيرين عنه، وهذا من أصح الأسانيد. واما المخالفة فمن رواية عبد الملك ابن أبي سليمان عن عطاء عنه، وهو دون الأول في القوة بكثير. أجيب: بأن قوله ثبت أن أبا هريرة أفتى بالغسل سبعا يحتاج إلى البيان، ومجرد الدعوى لا تسمع، ولئن سلمنا ذلك فقد يحتمل أن يكون فتواه بالسبع قبل ظهور النسخ عنده، فلما ظهر أفتى بالثلاث. وأما دعوى الرجحان فغير صحيحه، لا من حيث النظر ولا من حيث قوة الإسناد، لأن رجال كل منهما رجال الصحيح. كما بيناه عن قريب، وأما من حيث النظر فإن العذرة أشد في النجاسة من سؤر الكلب
(٤١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 ... » »»