عمدة القاري - العيني - ج ٣ - الصفحة ١٢٠
الأسئلة والأجوبة منها: أن هذا الحديث رواه ابن عباس، فعلى تقدير كون هذا في مكة على ما دل عليها السند، كيف يتصور هذا، وكان ابن عباس عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من مكة ابن ثلاث سنين؟ فكيف ضبط ما وقع بمكة؟ الجواب: من ثلاثة أوجه: الأول: أنه يحتمل وقوع هذه القضية بعد مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة سنة الفتح، أو سنة الحج. الثاني: أنه يحتمل أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. الثالث: أنه يكون ما رواه من مراسيل الصحابة، كذا قيل. قلت: له وجه رابع: وهو أن يكون ابن عباس سمع ذلك من صحابي، فاسقط ذكره من بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ونظائره كثيرة. وهو في الحقيقة داخل في الوجه الثالث.
ومنها: أن في متن هذا الحديث: (ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين) يعني: أتي بها فكسرها، وفي حديث جابر رضي الله تعالى عنه رواه مسلم أنه الذي قطع الغصنين، فهل هذه قضية واحدة أم قضيتان؟ الجواب: أنهما قضيتان، والمغايرة بينهما من أوجه. الأول: أن هذه كانت في المدينة، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة، وقضية جابر كانت في السفر وكان خرج لحاجته فتبعه جابر وحده. الثاني: أن في هذه القضية أنه، عليه الصلاة والسلام، غرس الجريدة بعد أن شقها نصفين، كما في رواية الأعمش الآتية في الباب الذي بعده، وفي حديث جابر: أمر، عليه الصلاة والسلام جابرا، فقطع غصنين من شجرتين كان النبي صلى الله عليه وسلم استتر بهما عند قضاء حاجته، ثم أمر جابرا فألقى غصنين عن يمينه وعن يساره، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا، وأن جابرا سأله عن ذلك، فقال: إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفع عنهما ما دام الغصنان رطبين. الثالث: لم يذكر في قصة جابر ما كان السبب في عذابهما. الرابع: لم يذكر فيه كلمة: الترحبي، فدل ذلك كله على أنهما قضيتان مختلفتان، بل روى ابن حبان في (صحيحه) عن أبي هريرة: (أنه صلى الله عليه وسلم مر بقبر فوقف عليه فقال: ائتوني بجريدتين فجعل إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه) فهذا بظاهره يدل على أن هذه قضية ثالثة، فسقط بهذا كلام من ادعى أن القضية واحدة، كما مال إليه النووي والقرطبي.
ومنها: أن ما كانت الحكمة في عدم بيان اسمي المقبورين ولا أحدهما؟ الجواب: أنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم لم يبين ذلك قصدا للستر عليهما، خوفا من الافتضاح، وهو عمل مستحسن، ولا سيما من حضرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي شأنه الرحمة والرأفة على عباد الله تعالى، ويحتمل أن يكون قد بينه ليحترز غيره من مباشرة ما باشر صاحب القبرين، ولكن الراوي أبهمه عمدا لما ذكرنا. فان قلت: قد ذكر القرطبي عن بعضهم أن أحدهما كان سعد بن معاذ، رضي الله تعالى عنه. قلت: هذا قول فاسد لا يلتفت إليه، ومما يدل على فساده أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر جنازته كما ثبت في الصحيح، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم سيدا حيث قال لأصحابه: (قوموا إلى سيدكم). وقال: إن حكمه وافق حكم الله تعالى، وقال: إن عرش الرحمن اهتز لموته، وغير ذلك من مناقبه العظيمة، رضي الله عنه، وقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم دفن المقبورين، دل عليه حديث أبي أمامة، رضي الله عنه، رواه أحمد، ولفظه: (أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: من دفنتم اليوم ههنا)؟ ولم ينقل عنه، عليه الصلاة والسلام، ما ذكره القرطبي عن البعض، فدل ذلك على بطلانه في هذه القضية.
ومنها: أن هذين المقبورين هل كانا مسلمين أو كافرين؟ الجواب: أن العلماء اختلفوا فيه، فقيل: كانا كافرين، وبه جزم أبو موسى المديني في كتابه (الترغيب والترهيب) واحتج في ذلك بما رواه من حديث ابن لهيعة عن أسامة بن زيد عن أبي الزبير عن جابر، رضي الله تعالى عنه، قال: (مر نبي الله صلى الله عليه وسلم على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهيلة، فسمعهما يعذبان في البول والنميمة)، قال: هذا حديث حسن، وإن كان إسناده ليس بالقوي لأنهما لو كانا مسلمين لما كان لشفاعته صلى الله عليه وسلم لهما إلى أن ييبسا معنى، ولكنه لما رآهما يعذبان لم يستجز من عطفه ولطفه صلى الله عليه وسلم حرمانهما من ذلك، فشفع لهما إلى المدة المذكورة، ولما رواه الطبراني في (الأوسط): (مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبور نساء من بني النجار هلكن في الجاهلية فسمعهن يعذبن في النميمة). قال: لم يروه عن أسامة إلا ابن لهيعة، وقيل: كانا مسلمين وجزم به بعضهم، لأنهما لو كانا كافرين لم يدع، عليه الصلاة والسلام، لهما بتخفيف العذاب ولا ترجاه لهما، ويقوي هذا ما في بعض طرق حديث ابن عباس، رضي الله عنه تعالى عنهما: (مر بقبرين من قبور الأنصار جديدين). فإن تعددت الطرق، وهو الأقرب لاختلاف الألفاظ، فلا بأس. وإن لم تتعدد فهو بالمعنى إذ بنو النجار من الأنصار، وهو لقب إسلامي لقبوا به لنصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف بها مسمى في الجاهلية، ويقويه أيضا ما في رواية مسلم: (فأجبت بشفاعتي)، والشفاعة لا تكون إلا لمؤمن، وما في رواية أحمد المذكورة: (فقال من دفنتم اليوم ههنا)؟ فهذا أيضا
(١٢٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 ... » »»