عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ٣
تصدى لشرحه جماعة من الفضلاء وطائفة من الأذكياء من السلف النحارير المحققين وممن عاصرناهم من المهرة المدققين فمنهم من أخذ جانب التطويل وشحنه من الأبحاث بما عليه الاعتماد والتعويل ومنهم من لازم الاختصار في البحث عما في المتون ووشحه بجواهر النكات والعيون ومنهم من أخذ جانب التوسط مع سوق الفوائد ورصعه بقلائد الفرائد ولكن الشرح أي الشرح ما يشفي العليل ويبل الأكباد ويروي الغليل حتى يرغب فيه الطلاب ويسرع إلى خطبته الخطاب سيما هذا الكتاب الذي هو بحر يتلاطم أمواجا رأيت الناس يدخلون فيه أفواجا فمن خاض فيه ظفر بكنز لا ينفد أبدا وفاز بجواهره التي لا تحصى عددا وقد كان يختلج في خلدي أن أخوض في هذا البحر العظيم لأفوز من جواهره ولآليه بشيء جسيم ولكني كنت أستهيب من عظمته أن أحول حوله ولا أرى لنفسي قابلية لمقابلتها هوله ثم إني لما رحلت إلى البلاد الشمالية الندية قبل الثمانمائة من الهجرة الأحمدية مستصحبا في أسفاري هذا الكتاب لنشر فضله عند ذوي الألباب ظفرت هناك من بعض مشايخنا بغرائب النوادر وفوائد كاللآلي الزواهر مما يتعلق باستخراج ما فيه من الكنوز واستكشاف ما فيه من الرموز ثم لما عدت إلى الديار المصرية ديار خير وفضل وأمنية أقمت بها برهة من الخريف مشتغلا بالعلم الشريف ثم اخترعت شرحا لكتاب معاني الآثار المنقولة من كلام سيد الأبرار تصنيف حجة الإسلام الجهبذ العلامة الإمام أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي أسكنه الله تعالى من الجنان في أحسن المآوي ثم أنشأت شرحا على سنن أبي داود السجستاني بوأه الله دار الجنان فعاقني من عوائق الدهر ما شغلني عن التتميم واستولى على من الهموم ما يخرج عن الحصر والتقسيم ثم لما انجلى عني ظلامها وتجلى علي قتامها في هذه الدولة المؤيدية والأيام الزاهرة السنية ندبتني إلى شرح هذا الكتاب أمور حصلت في هذا الباب (الأول) أن يعلم أن في الزوايا خبايا وأن العلم من منايح الله عز وجل ومن أفضل العطايا (والثاني) إظهار ما منحني الله من فضله الغزير وإقداره إياي على أخذ شيء من علمه الكثير والشكر مما يزيد النعمة ومن الشكر إظهار العلم للأمة (والثالث) كثرة دعاء بعض الأصحاب بالتصدي لشرح هذا الكتاب على أني قد أملتهم بسوف ولعل ولم يجد ذلك بما قل وجل وخادعتهم عما وجهوا إلي بأخادع الالتماس ووادعتهم من يوم إلى يوم وضرب أخماس لأسداس والسبب في ذلك أن أنواع العلوم على كثرة شجونها وغزارة تشعب فنونها عز على الناس مرامها واستعصى عليهم زمامها صارت الفضائل مطموسة المعالم مخفوضة الدعائم وقد عفت أطلالها ورسومها واندرست معالمها وتغير منثورها ومنظومها وزالت صواها وضعفت قواها * كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر * ومع هذا فالناس فيما تعبت فيه الأرواح وهزلت فيه الأشباح على قسمين متباينين قسم هم حسدة ليس عندهم إلا جهل محض وطعن وقدح وعض لكونهم بمعزل عن انتزاع أبكار المعاني وعن تفتيق ما رتق من المباني فالمعاني عندهم تحت الألفاظ مستورة وأزهارها من وراء إلا كمام زاهرة منظورة * إذا لم يكن للمرء عين صحيحة * فلا غروان يرتاب والصبح مسفر * وصنف هم ذوو فضائل وكمالات وعندهم لأهل الفضل اعتبارات المنصفون اللاحظون إلى أصحاب الفضائل والتحقيق وإلى أرباب الفواضل والتدقيق بعين الإعظام والإجلال والمرفرفون عليهم أجنحة الإكرام والأشبال والمعترفون بما تلقنوا من الألفاظ ما هي كالدر المنثور والأرى المنشور والسحر الحلال والماء الزلال وقليل ما هم وهم كالكثير فالواحد منهم كالجم الغفير فهذا الواحد هو المراد الغارد ولكن أين ذاك الواحد ثم إني أجبتهم بأن من تصدى للتصنيف يجعل نفسه هدفا للتعسيف ويتحدث فيه بما فيه وما ليس فيه وينبذ كلامه بما فيه التقبيح والتشويه فقالوا ما أنت بأول من عورض ولا بأول من كلامه قد نوقض فإن هذا داء قديم وليس منها سالم إلا وهو سليم فالتقيد بهذا يسد أبواب العلوم عن فتحها وإلا كتراث به يصد عن التمييز بين محاسن الأشياء وقبحها (هذا) ولما لم يرتدعوا عن سؤالهم ولم أجد بدا عن آمالهم شمرت ذيل الحزم عن ساق الجزم وأنخت مطيتي.
(٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 ... » »»