الهرج، وكان خيرا له من ارتكاب العظائم بالنفي والضرب والشتم والازعاج والجفوة، ولو كان الخليفة يرى خطأهم في إنكارهم عليه فإنه كان في وسعه أن يعقد لهم محتفلا للتفاهم، فإما أن يتنازلوا عن بعض ما أرادوا، أو يتنازل هو عن بعض ما يبتغيه، أو يتكافئا في التنازل فتقع خيرة الكل على أمر واحد، وكان عقد هذا المنتدى خيرا له مما عقده للنظر في شأن عامر بن عبد قيس، وجمع خلقا من أصول الجور، وجذوم الفتن، وجراثيم العيث والفساد، فروع الشجرة الملعونة، وهم الذين جروا إليه الويلات بجورهم وفجورهم واستعبادهم الأمة وابتغائهم الغوائل، وهملجتهم وراء المطامع، فلم يسمع منهم في ذلك المجتمع ولا في غيره إلا رأي مستغش، ونظرية خائن، أو أفيكة مائن، أو دسيسة لعين بلسان النبي الأقدس مرة بعد أخرى، وهو مع ذلك يراهم وزراءه ونصحاءه وأهل ثقته أولا تعجب من خلافة يكون هؤلاء وزرائها ونصحائها وأهل ثقة صاحبها؟
ثم انظر كيف كان التفاهم بين الرجلين: الخليفة وسفير المسلمين إليه، هذا يذكره بالتقوى وبالتوبة إلى الله وينهاه عن ارتكاب العظائم التي استعظمها المسلمون العلماء منهم والقراء والنساك وذووا الرأي والمسكة، والخليفة يعد ما استعظمته الأمة من المحقرات، ثم يهزأ به ويقذفه بقلة المعرفة مشفوعا ذلك باليمين كما قذف به كعبا و صعصعة بن صوحان وسمع منهما ما سمعه من عامر لأنهم حملة العلم، والعلم حرف واحد كثره الجاهلون.
والأعجب كيف يعير الخليفة إلى سعاية حمران بن أبان أذنا واعية وقد رآه على الفاحشة هو بنفسه وذلك أنه تزوج امرأة في العدة فضربه ونفاه إلى البصرة (1) و أسر إليه سرا فأخبر به عبد الرحمن بن عوف، فغضب عليه عثمان ونفاه (2) وقال البلاذري في الأنساب 5: 75: كان عثمان وجه حمران إلى الكوفة حين شكا الناس الوليد بن عقبة ليأتيه بحقيقة خبره فرشاه الوليد فلما قدم على عثمان كذب عن الوليد وقرظه ثم إنه لقي مروان فسأله عن الوليد فقال له: الأمر جليل فأخبر مروان عثمان بذلك فغضب على حمران وغربه إلى البصرة لكذبه إياه وأقطعه دارا.