تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد - الصفحة ٧٦
ولها عرش عظيم) (1) يريدون: لها ملك عظيم، فعرش الله تعالى هو ملكه، واستواؤه على العرش هو استيلاؤه على الملك، والعرب تصف الاستيلاء بالاستواء، قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق (2) يريد به قد استولى على العراق (3)، فأما العرش الذي تحمله الملائكة،

(١) النمل: ٢٣.
(٢) بحار الأنوار ٤: ٥.
(٣) قال العلامة الشهرستاني في مجلة (المرشد ص ٢٩ - ٣١ ج ٣): ليس المذهب الصحيح ما ذهب إليه الحشوية وبعض الظاهرية من أن العرش سرير كبير يجلس الله عليه جلوس الملك اغترارا منهم بما يفهمه العوام من كلمة (العرش) أو من لفظة (استوى) إذ العلم والدين متفقان على تنزيه الخالق - عز شأنه - من صفات الأجسام، وتقديس العالم الروحاني من شوائب المواد. ولو اتخذنا فهم العوام ميزانا لتفسير الكتاب والسنة لشوهنا محاسن تلك الجمل البليغة، وذهبنا بها إلى معاني مبذولة غير مقبولة، ولوجب علينا أن نفسر آية: (يجعلون أصابعهم في آذانهم) (البقرة: ٢٠) بدخول الأصابع كلها في الآذان، وأن نفسر حديث (الحجر الأسود يمين الله في أرضه) بأن الحجر هو إحدى أكف الرب - تعالى شأنه - نعم، لهذا الحديث وأمثاله ولتلك الآية وأمثالها وجه معقول، ولكن على سبيل التشبيه والمجاز وعليهما مدار الكلام البليغ.
وبالجملة: إننا نفسر القرآن بالقرآن لئلا نحيد عن صراطه المستقيم، فنقول:
إن العرب كانوا ولا يزالون يسمون البيت المصنوع سقفه وقوائمه من أصول الأشجار عريشا ويستعملون الصيغ المشتقة من هذا الاسم لمعاني قريبة منه، كما في آية (ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) (الأعراف:
١٣٧).
وفي آية: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) (النحل: ٦٨) وآية: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات) (الأنعام: ١٤١) يعني بذلك السقوف وقوائمها المصنوعة من أصول الشجر وفروعها للكرم أو لغيره، وآية:
(أو كالذي مر على قرية وهي خاوية عل عروشها) (البقرة ٢٦٠) يعني قصورها وبيوتها المسقفة، وبهذه المناسبة ومن غلبة الاستعمال صار ( العرش) علما للدائرة الخاصة بملوك البشر على اختلاف أشكالها حسب اختلاف حضارة البشر في أدواره وفخامة الملك وسلطانه.
وقد استعمل الوحي الإلهي لفظة (العرش) على سبيل التجوز في دائرة ملك الله سبحانه الخاصة به وبملائكته المقربين، فعرشه كناية عن عالم الروحانيات، وما كان الحكماء الأقدمون يسمونه بعالم الملكوت، وسماه حكماء الاسلام بعالم الأمر.
وأما لفظة (استوى) وهي التي جعلت الآية من المتشابهات عند القوم، فمعناها التمكن التام والاستيلاء الكامل بدليل ما يظهر من آية: (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك) (المؤمنون: ٢٨) أي: تمكنت، وآية:
(فاستغلظ فاستوى على سوقه) (الفتح: ٢٩) أي: تمكن واستقام، وآية: (و لما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما) (القصص: ١٤) فالاستواء فيهن بمعنى التمكن التام دون الجلوس كما زعمت المشبهة، وكثير في محاورات العرب استعمال (استوى) بمعنى التمكن الأتم والاقتدار الكامل، كقول بعيث الشاعر:
قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق يريد تمكنه التام، غير أننا نتوخى على الدوام تفسير القرآن بالقرآن والاهتداء منه إليه، وقد دلنا على معنى (العرش) كما دلنا على معنى (الاستواء) وأن الله سبحانه قد ظهر من خلقه للسموات والأرض تمكنه التام واقتداره الكامل على عالم الأرواح، أي: دائرة ملكه الخاصة به والمهيمنة على عالم الأجسام ويؤيد ذلك: قوله تعالى بعد هذه الآية: (له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) (طه: 6) مشيرا إلى أنه استولى قبل كل شئ على عالم الملكوت والأرواح، ثم تمكن بذلك من تملك عالم الناسوت والأجرام.
وإن شئتم التفاصيل الكافية بأسرار العرش وآياته وحل سائر مشكلاته، فقد استوفينا كل ذلك في رسالتنا (العرشية). چ.
(٧٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 مقدمة الكتاب 1
2 الشيخ المفيد - و - تصحيح الاعتقاد 19
3 مفتتح الكتاب 27
4 معنى كشف الساق 28
5 تأويل اليد 30
6 نفخ الأرواح 31
7 حكمة الكناية والاستعارة 33
8 المكر والخدعة من الله - معنى الله يستهزئ بهم 35
9 نسبة النسيان إلى الله 38
10 صفات الله 40
11 خلق أفعال العباد 42
12 فصل - كتاب الله مقدم على الأحاديث 44
13 الجبر والتفويض 46
14 المشيئة والإرادة 48
15 تفسير آيات القضاء والقدر 54
16 تفسير أخبار القضاء والقدر 57
17 معنى فطرة الله 60
18 معنى البداء 65
19 الجدال على ضربين: أحدهما بالحق والآخر بالباطل 68
20 في اللوح بالباطل 74
21 معنى العرش 75
22 في النفوس والأرواح 79
23 تفسير أخبار الذر 83
24 تفسير آية: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) الآية 83
25 في الرجعة 89
26 فيما وصف به الشيخ أبو جعفر - ره - الموت 94
27 في المسألة في القبر 98
28 فيما ذكر الشيخ أبو جعفر - ره - في العدل 103
29 في الأعراف 106
30 في الصراط 108
31 في العقبات 112
32 في الحساب والميزان 114
33 في الجنة والنار 116
34 حد التكفير 119
35 في نزول الوحي 120
36 في نزول القرآن 123
37 تفسير آية: (فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما) في الإشارة إلى أن طبرس المنسوب إليه الامام الطبرسي 125
38 في العصمة 128
39 في الغلو والتفويض 131
40 في أن ما ذكره أبو جعفر - ره - من مضى نبينا والأئمة - عليهم السلام - بالسهم والقتل، منه ما ثبت ومنه ما لم يثبت 131
41 في التقية 137
42 في أن آباء النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا موحدين 139
43 في تفسير آية: (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) 140
44 في الحظر والإباحة 143
45 في الطب 144
46 في الأحاديث المختلفة 146
47 إجازة سماحة الإمام آل كاشف الغطاء مد ظله للواعظ الچرندابي كتبا 154
48 كلمة غالية، للكاتب الكبير عماد الدين الأصبهاني 155