شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ٨ - الصفحة ٣٧٤
ثم الكلام هنا في نفس الزهد وفيما يرغب عنه وفيما يرغب فيه أما الأول فدرجاته ثلاثة:
الدرجة السفلى أن يزهد في الدنيا ويتركها وهو له مشقة ونفسه إليها مائلة ولكن يجاهدها ويمنعها عن التوجه إليها وهذا شبيه بالمتزهد بل سماه بعض أهل التحقيق به، والدرجة الوسطى أن يتركها طوعا بلا مشقة لإستحقاره إياها بالإضافة إلى ما طمع فيه كمن يترك درهما لدارهم كثيرة فإنه لا يشق عليه ذلك وإن احتاج إلى انتظار ما ولكن يرى هذا زهده ويظن أنه ترك شيئا له قدر لأجل ما هو أعظم منه والدرجة العليا أن يتركها طوعا ويزهد في زهده ولا يظن أنه ترك شيئا لعلمه بأن الدنيا لا شئ كمن ترك قذرة لأجل جوهر ثمين فإنه لا يرى أن ذلك معاوضة ولا يرى أنه ترك شيئا، فإن الدنيا بالقياس إلى الآخرة أخس من قذرة بالقياس إلى جوهر ثمين وهذا هو الزهد الحقيقي وسببه كما المعرفة بخسة الدنيا وكما الآخرة، وأما الثاني فدرجاته أيضا ثلاثة الدرجة السفلى أن يترك المحرمات الشرعية والأعمال القبيحة، والدرجة الوسطى أن يترك مع ذلك الرذائل النفسانية مثل الشهوة والغضب والكبر وحب الرئاسة وأمثالها، والدرجة العليا أن يترك جميع ما سوى الله جل شأنه وهو في هذه الدرجة يزهد في نفسه أيضا ولا ترى في الوجود إلا هو وهو معنى الوحدة.
وأما الثالث فدرجاته أيضا ثلاثة الدرجة السفلى أن يكون الغرض من زهده هو النجاة من النار ومن سائر الآلام كعذاب القبر ومناقشة الحساب وخطرات الصراط وبواقي الأهوال المتعلقة بالقيامة، والدرجة الوسطى أن يكون الغرض مع ذلك الرغبة في ثواب الله ونعيم الجنة وللذات الموعودة مثل الحور والقصور وغيرها، والدرجة العليا أن لا تكون له رغبة إلا وجه الله ولقاء ولا يلتفت إلى سواه وهذا زهد المحبين ورغبة العاشقين (1)

1 - قوله «ولا يلتفت إلى سواه زهد المحبي» ربما يختلج في أذهان سفلة الناس أن المحروم من لذة الأكل والنكاح محروم من السعادة ويلزم من ذلك أن تكون الملائكة المقربون والأرواح المقدسة القدسية أنقض من الحيوان في اللذات والسعادات بل ربما يتوهم بعض المتفلسفين أن علم هؤلاء المقربين أنقض من علوم الحيوانات العجم في الكيفية لأن المحسوسات إنما ترك بآلات مادية مركبة من هذه العناصر الأربعة وليس لهم حواس بهذه الصفة فلا يدركون النور والألوان وجمال الطبيعة وزينتها والأصوات وغير ذلك وفاق عليهم الحيوان والإنسان بهذه المزية ولو كان صحيحا لكان الواجب تعالى أيضا مثلهم في ذلك وكيف يتوهم عاقل أن من خلق طبقات العين وشكل الجليدية ولون العنبية وركب عليها الأشفار والحواجب لا يكون عالما بالنور وخواصه وهكذا ساير الأعضاء. والصحيح أن إدراك الأشياء لا يتوقف على وجود جسم ومادة تتأثر بل هي مانعة عن الإدراك ذاتا ولكن الله تعالى لما قدر ترقى الوجود من أسفل مراتبه وهو المادة إلى أعلى درجاته وهو العقل فلم يكن بد من أن يمر في طريقه على مادة يأخذ طرفا من الإدراك فصار حيوانا وإنسانا وهو منزل بين عدم الإدراك المادي والإدراك الكامل العقلي فيترقي تدريجا في الإدراك ويضعف في المادية فيصير إدراكا صرفا يجتمع فيه جميع السعادات إذ ما من كمال ولذة وبهجة إلا وسببها الإدراك ولا يعقل أن يكون الزاهد المعرض عن الدنيا السافلة المقبل بكليته إلى أشرف الموجودات وأعزها وأكلهما وإدراك عين الكمال أدون في السعادة والبهجة من المنهمك في الشهوات خصوصا مع مشاهدة أمارات الخلود والبقاء والأمن من الموت الذي هو أشد المخاوف على الإحياء والإنسان إذا إرتقى إلى مقام التحقق بالعقل ليس كمن كان في بيت له شبابيك من الحواس يطلع منها على الأشياء ثم حبس وسد عليه تلك الشبابيك ومنع من إدراك الموجودات بل بمنزلة من يخرق حواجب المكان والزمان ويحضر عند كل شيء وفق لإدراكه والاتصال به وبالجملة يوجد للنفوس الناطقة بد لا عن الحواس المادية ما يدرك بها الأشياء أكمل مما كانت تدركه كما ينفتح للنائم عين ينظر بها بعد سلب العين الظاهرة وليس هذا ممتنعا في قدرته تعالى وليس إدراك الإنسان بعد الموت منحصرا في المطالعة خيالاته المحفوظة في ذهنه. (ش)
(٣٧٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 369 370 371 372 373 374 375 376 377 378 379 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 باب طينة المؤمن والكافر 3
2 باب آخر منه 15
3 باب آخر منه 21
4 باب 32
5 باب 35
6 باب 36
7 باب 42
8 باب 43
9 باب 44
10 باب 46
11 باب الإخلاص 49
12 باب الشرائع 57
13 باب دعائم الإسلام 61
14 باب 74
15 باب آخر منه 85
16 باب 87
17 باب 101
18 باب السبق إلى الإيمان 121
19 باب درجات الإيمان 130
20 باب آخر منه 135
21 باب نسبة الإسلام 138
22 باب خصال المؤمن 143
23 باب 151
24 باب صفة الإيمان 159
25 باب فضل الإيمان على الإسلام واليقين على الإيمان 163
26 باب حقيقة الإيمان واليقين 168
27 باب التفكر 174
28 باب المكارم 178
29 باب فضل اليقين 186
30 باب الرضا بالقضاء 196
31 باب 206
32 باب حسن الظن بالله عز وجل 227
33 باب الطاعة والتقوى 235
34 باب العفة 251
35 باب اجتناب المحارم 253
36 باب أداء الفرائض 257
37 باب استواء العمل والمداومة عليه 259
38 باب العبادة 261
39 باب النية 265
40 باب 269
41 باب الإقتصاد في العبادة 271
42 باب 274
43 باب الصبر 277
44 باب الشكر 291
45 باب حسن الخلق 303
46 باب حسن البشر 312
47 باب الحياء 317
48 باب العفو 319
49 باب كظم الغيظ 323
50 باب الحلم 328
51 باب الصمت وحفظ اللسان 333
52 باب المداراة 343
53 باب الرفق 347
54 باب التواضع 354
55 باب 363
56 باب ذم الدنيا والزهد فيها 372
57 باب باب القناعة 407
58 باب الكفاف 412
59 باب تعجيل فعل الخير 415
60 باب الإنصاف والعدل 419
61 استدراك 428