العلم من مظانه أن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة، قال: وليس مما يذهب إليه الوهم فيه في شئ منه، وذلك لأن زيد بن أرقم كان من الأنصار من الذين أسلموا بالمدينة وصلوا بها قبل هجرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا يصلون بالمدينة كما يصلي المسلمون بمكة في إباحة الكلام في الصلاة لهم، فلما نسخ ذلك بمكة نسخ كذلك بالمدينة، فحكى زيد ما كانوا عليه لا أن زيدا حكى ما لم يشهده في الصلاة، وهذا الجواب يرده قول زيد المتقدم: كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأيضا قد ذكر ابن حبان نفسه أن نسخ الكلام في الصلاة كان عند رجوع ابن مسعود من أرض الحبشة قبل الهجرة بثلاث سنين، وإذا كان كذلك فلم يكن الأنصار حينئذ قد صلوا ولا أسلموا، فإن إسلام من أسلم منهم كان حين أتى النفر الستة من الخزرج عند العقبة فدعاهم إلى الله فآمنوا، ثم جاء في الموسم الثاني منهم اثنا عشر رجلا فبايعوه وهي بيعة العقبة الأولى، ثم جاؤوا في الموسم الثالث فبايعوه بيعة العقبة الثانية، ثم هاجر إليهم في شهر ربيع الأول، فكان إسلامهم قبل الهجرة بسنتين وثلاثة أشهر. (وأجاب العراقي) عن ذلك الاشكال بأن الرواية الصحيحة المتفق عليها في حديث ابن مسعود هي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجابه بقوله: إن في الصلاة شغلا، فيحتمل أنه صلى الله عليه وآله وسلم رأى ذلك منه اجتهادا قبل نزول الآية. قال: وأما الرواية التي فيها أن الله قد أحدث من أمره أن لا نتكلم في الصلاة فلا تقاوم الرواية الأولى للاختلاف في راويها، وعلى تقدير ثبوتها فلعله أوحي إليه ذلك بوحي غير القرآن.
وفيه أن الترجيح فرع التعارض ولا تعارض، لأن رواية أن لا تتكلموا زيادة ثابتة من وجه معتبر كما سيأتي فقبولها متعين. وأما الاعتذار بأنها بوحي غير قرآن فذلك غير نافع، لأن النزاع في كون التحريم للكلام في مكة أو في المدينة لا في خصوص أنه بالقرآن. (ومن جملة) ما أجيب به عن ذلك الاشكال أن زيد بن أرقم ممن لم يبلغه تحريم الكلام في الصلاة إلا حين نزول الآية، ويرده قوله في حديث الباب: يكلم الرجل منا صاحبه، وإن ذلك كان خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن المعلوم أن تكليم بعضهم بعضا في الصلاة لا يخفى عليه لأنه يراهم من خلفه كما صح عنه. (ومن الأجوبة) أن يكون الكلام نسخ بمكة ثم أبيح ثم نسخت الإباحة بالمدينة. ومنها حمل حديث ابن مسعود على تحريم الكلام لغير مصلحة الصلاة،