الدارقطني: هذا إسناد صحيح، وعروض النسيان في مثل هذا غير مستنكر، فقد حكى الحازمي عن نفسه أنه حضر جامعا، وحضره جماعة من أهل التمييز المواظبين في ذلك الجامع، فسألهم عن حال إمامهم في الجهر والاخفات قال: وكان صيتا يملأ صوته الجامع، فاختلفوا في ذلك فقال بعضهم يجهر، وقال بعضهم يخفت، ولكنه لا يخفى عليك أن هذه الأحاديث التي استدل بها القائلون بالجهر منها ما لا يدل على المطلوب، وهو ما كان فيه ذكر أنها آية من الفاتحة، أو ذكر القراءة لها، أو ذكر الامر بقراءتها من دون تقييد بالجهر بها في الصلاة، لأنه لا ملازمة بين ذلك وبين المطلوب وهو الجهر بها في الصلاة.
وكذلك ما كان مقيدا بالجهر بها دون ذكر الصلاة لأنه لا نزاع في الجهر بها خارج الصلاة.
(فإن قلت): أما ذكر أنها آية أو ذكر الامر بقراءتها في الصلاة بدون تقييد بالجهر فعدم الاستلزام مسلم، وأما ذكر قراءته صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة لها فالظاهر أنه يستلزم الجهر، لأن الطريق إلى نقله إنما هي السماع وما يسمع جهر وهو المطلوب. قلت: يمكن أن تكون الطريق إلى ذلك إخباره صلى الله عليه وآله وسلم أنه قرأ بها في الصلاة فلا ملازمة. والذي يدل على المطلوب منها هو ما صرح فيه بالجهر بها في الصلاة، وهي أحاديث لا ينتهض الاحتجاج بها كما عرفت، ولهذا قال الدارقطني: إنه لم يصح في الجهر بها حديث، ولو سلمنا أن ذكر القراءة في الصلاة يستلزم الجهر بها لم يثبت بذلك مطلوب القائلين بالجهر، لأن أنهض الأحاديث الواردة بذلك حديث أبي هريرة المتقدم، وقد تعقب باحتمال أن يكون أبو هريرة أشبههم صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معظم الصلاة لا في جميع أجزائها، على أنه قد رواه جماعة غير نعيم عن أبي هريرة بدون ذكر البسملة كما قال الحافظ في الفتح. وقد جمع القرطبي بما حاصله: إن المشركين كانوا يحضرون المسجد فإذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: إنه يذكر رحمن اليمامة يعنون مسيلمة، فأمر أن يخافت ببسم الله الرحمن الرحيم ونزلت: * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) * (الاسراء: 110) قال الحكيم الترمذي: فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذكر الرسم وإن زالت العلة، وقد روى هذا الحديث الطبراني في الكبير والأوسط. وعن سعيد بن جبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وكان المشركون يهزؤون بمكاء وتصدية ويقولون: محمد يذكر إله اليمامة، وكان مسيلمة الكذاب يسمى رحمن، فأنزل الله: * (ولا تجهر بصلاتك) * فتسمع المشركين فيهزؤا بك * (ولا تخافت) * عن أصحابك فلا تسمعهم. رواه ابن جبير